الاستبداد الناعم في زمن الصفقات

 


 بقلم رنا الطويل 

في زمن يُفترض أنه زمن الانفتاح والمشاركة الحرة في المعرفة، ما زلنا نُرزح تحت وطأة الاستبداد الناعم، حيث لا يحتكر السلطة من يحمل السلاح فحسب، بل من يحتكر المعرفة، يخبئها في ملفات مغلقة، ويمارس سلطته تحت أقنعة الاحتراف والبيروقراطية والتراتبية الأكاديمية. هذا النوع من الاستبداد لا يصرخ ولا يقمع علنًا، بل يبتسم لك وهو يغلق الباب.


تحضرني قصة طالبة في مرحلة الدراسات العليا، كانت تمتلك مشروعًا بحثيًا جريئًا يطرح أسئلة جديدة عن مناهج التعليم. عرضته على مشرفها بكل حماس، لكنه لم ينظر في محتواه، بل في مدى “سلامته” من أي اختلاف عن ما هو معتاد. قيل لها حرفيًا: “خففي نبرة السؤال… الأسئلة تفتح ملفات، والملفات تُربك الإدارة”. تركت البحث، لا لقلة شغف، بل لكثرة الأبواب المغلقة.


وفي جهة أخرى، موظف عمل لسنوات بضمير في مؤسسة بحثية، جمع خلالها ملفات علمية نادرة، نظم الأرشيف، وبادر بمقترحات تطوير، لكنه ظل في مكانه. حين سأل عن فرص الترقية، قيل له إن ملفه الإداري لا يزال “قيد الدراسة”. بعد أشهر، صعد آخرون أقل كفاءة لكن أكثر قربًا من دوائر القرار. خرج بهدوء، وكأن خبرته لم تكن يومًا جزءًا من المؤسسة.


شاب مبتكر في العشرينيات، تقدم بمبادرة تقنية لتحسين كفاءة العمل داخل أحد الأقسام. المبادرة كانت ناضجة، واعتمد فيها على مصادر موثوقة وتجارب عالمية، لكنه لم يملك “الاسم” المناسب ليدفع الملف إلى الطاولة. حُفظ المشروع في درج خشبي بلا رد، ثم سُمع لاحقًا أن الفكرة أُعيدت طرحها، بعد أن طُبخت في مطبخ آخر.


ثم هناك ذلك الشاب الذي حلم ببرنامج تلفزيوني يحاكي الوعي، يفتح حوارًا عميقًا عن قيم المجتمع والتحول الثقافي، كان يحمل الفكرة بتفاصيلها، أعدّ المحتوى، وبنى الهوية، ووضع أهدافًا ترتقي بالذوق العام. لكنه لم يخضع لمعايير التفاهة السائدة، لم يأتِ بصخب ولا استعراض، بل جاء بالفكرة، بالعقل، بالإيمان أن الجمهور لا يزال حيًا. جال على الأبواب حالمًا بفرصة، فقيل له: “فكرتك جيدة، لكن لا تجذب المشاهد، نحتاج شيئًا خفيفًا، سريعًا، ضاحكًا”. الفكرة لم ترَ النور، لا لأنها ناقصة، بل لأنها صادقة.


ولا يمكن إغفال مشهد آخر يروي أحد أوجه هذا الاستبداد، حين يظن صاحب الشهادة العليا أن لقبه يمنحه حق إلغاء الآخرين. في أحد فرق العمل، كان الدكتور حاضرًا دومًا برأيه فقط، يوزع الأوامر كما لو كان يُخاطب أطفالًا في زاوية حضانة، لا نساء مهنيات يمتلكن تاريخًا من الخبرة والعلم والإنجاز. لم يكن يصغي، لم يكن يتحاور، بل يُملي ما يراه، ويغلق كل باب لا يقود إلى رأيه. كأن الشهادة سلاح، وكأن التقدير العلمي يُخول صاحبه لمصادرة أصوات من حوله، ونسي — أو تجاهل — أن الفِرق تنهض بالتعاون، لا بالإقصاء.


ضحايا هذا الاستبداد لا تُنشر صورهم، ولا تُكتب عنهم التقارير، لكنهم موجودون بيننا: في المكتبات الجامعية، في المختبرات، في قاعات التدريب، وفي الممرات الطويلة للمؤسسات. يحملون داخلهم قهرًا صامتًا، ويكتبون بأقلام مثقوبة من فرط الإهمال.


الاستبداد الناعم لا يمنعك من الكلام مباشرة، بل يملأ محيطك بالصمت. يقنعك أن المشكلة فيك، أنك استعجلت، أنك لم تفهم “طريقة العمل هنا”، أو أنك لست “ضمن النظام بعد”. يقول لك بابتسامة مصقولة: “الفكرة ممتازة، لكن علينا أن نمر عبر القنوات”، بينما هذه القنوات ليست سوى متاهات طويلة تنتهي إلى لا شيء.


ومع ذلك، لا بد من التحرر. لا بد أن نقول بصوت عالٍ إن المعرفة لا تُختزن في الأدراج، ولا تُوزع حسب المقربين، ولا تُقنن باسم الإجراءات. علينا أن نكسر وهم أن الملفات هي التي تحكم مصائر الناس. أن نطالب بمنصات تفكير مفتوحة، وبمساحات حقيقية للحوار والمساءلة والتجريب.


أحيانًا نسخر من واقعنا لأنه لا يُصدّق. نضحك حين يُقال إن الأرشيف تعطل بسبب انقطاع الكهرباء منذ شهرين، أو حين نُمنع من طباعة ورقة بحثية لأن الطابعة لا تشتغل إلا بتوقيع المدير. نسخر لأننا نعلم أن السخرية آخر ما بقي لنا حين يصبح المنطق رفاهية.


الاستبداد الناعم لا يُسقطك فجأة، بل يُنهكك ببطء. يمتص شغفك، يشكك في قدراتك، يجعل الحلم يبدو كأنك ارتكبت خطأً. لكنه يُهزم حين نعي أن الصمت لا يصنع تغييرًا، وأن المعرفة التي تُحتجز، تفقد معناها. وحدهم من يصرون على السؤال، ومن يكتبون رغم العرقلة، ومن يرفعون أصواتهم في وجه القوالب، هم من يعيدون للمعرفة وجهها الحقيقي: أداة تحرر، لا أداة حكم.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology