حين صارَ الحلمُ أُردنًا



الدكتورة رنيم عبدالاله طويق


كنتُ أرضًا يبتلعها الصمت كل يوم

أقفرتُ في شمال الجزيرة العربيّة

خاوية كأنّ الحياة هجرتني طوْعًا

جافّة كأن المطر ضَلَّ مكاني

وكانوا يمرّون فوقي

جنودٌ لا يعرفونني

ساسةٌ يطبخونَ ثروتي على منضدةٍ بعيدةٍ

ينسجونَ معاهدات من خيوطِ الكذبِ

ويحفرون خنادق من وعودٍ واتفاقيات فارغةٍ.


كنتُ أسمع همسَ اللصوص في الليل

وأشمُّ رائحة الخوف ترتعشُ في حُضنِ الشمسِ

غريبٌ يجلسُ في بيتي

يأمرُ وينهي

يبيعُ ويشتري

والثّمنُ هو صمتي.

ورجوتُ يومًا ينكسرُ بهِ قيدي .. لا حَجري

يومًا أعانقُ به شمس حريتي

بعد أن أقفلوا عليّ سجنَ عبوديتي.


مددتُ جذوري في الحلمِ، رافضةً أن يموتَ

و سلوتُ الأماني بأراضٍ رفرفتْ

واختبرَت رِفعة النهوض بعد عهدٍ من الخضوعِ

تذكرتُ حريةِ النيلِ وبلاد الرافدين.

و صدَّقتُ ذلك

نعم .. الحرية ليستَ أسطورة ولا خُرافة 

إنَّها حقيقة ساطعة مثل جبينِ الشمس

محسومة مثل الموت

ومنقوشة بدماءِ الأبطال و حِنكة القادة و دُعاء الأجداد.


ثم أبلجَ الصبحُ

وصاحَ صوتٍ في الأرجاء ينادي

"افتحوا الراديو"

كانت أصواتهم قادمة من سفرٍ بعيدٍ

من شرفاتٍ نامت طويلا على أمل مؤجّل.

أصواتٌ لها دُخان

حرقها رماد الانتظار 

تهزُّ الميسمَ من رحيقِه

وتقلق الطيور من أعشاشها

تضرب الهواء كصفعةٍ غالبةٍ

فيتمايل الحفيف في جُذوع الشجر كأنّها ترقصُ على نداءِ الخَلاصِ.

والريح تلتفُّ حول المآذن والبيوت تحملُ معها رجفة سنين

رجفة من سمعَ الحقيقة بعد طولِ صمم.



"افتحوا الراديو"

..



صوتٌ مهيبٌ يشقُ أذني كما يشق الفجر قشرة الليل.

إنَّها كلمات الملك المؤسس عبد الله الأول وهو يعلنُ ما حلمتُ به بعد أن داسَ الغريب على ترابي.

كان صوته لا يخرج من المذياع فقط بل من أجنحتي المنكسرة.



بكت الأشجار فأزهرت السَّوسنة

ورُفعت أول راية على صدري

جفافي صارَ ظلًّا

 وترابي باتَ طينًا يبني ولا يُهدَم

وصوتي صار بوصلةً لكلِّ أرض مسلوبة 

وحق تأخّرت عدالتهِ

صرتُ دارًا 

يفتحُ صدرهُ للقادمينِ من منافي القهرِ

ويدّخرُ من خبزهِ لمن أنهكه الجوع 


أنا الأرض التي لم تُشترى

ولن تَبيعْ

أنا التي كلما ناداها شقيق مظلوم

أجابت بنخوةِ أبنائها 

الذين لو لم تكفِ أياديهم، سحبوا أرواحهم

وأعطوها.


منذُ فجرِ ذلك اليوم،

ما عدتُ مجرد أرض تُحرث بالانتداب،

بل صرتُ وطنًا يزهر بالعِزّة،

كرامة تنتصب،

ونشامى لا يُهزمون،

وملاذًا لكلّ شقيقٍ أضناه الطريق.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology