بقلم الكاتب { يوسف اليامي}
ضائع بيني وبيني...
أحديّ لا يَعرف ملامحه، ليس لأن المرآة مكسورة، بل لأن الداخل ممزق، متصدّع، يتناوب فيه الصمت والصراخ.
جزء مني يريد شيئًا، يركض نحوه بجنون، يحلم، يتوق، يتشبّث بحلم لا يموت.
وجزء آخر... يحمل سيفًا في وجهي، يعيقني، يزرع في طريقي الشك، ويغرس في صدري الخوف، يهمس لي: "أنت لا تستحق"، "لن تصل"، "اترك كل شيء واهرب".
كيف أنجو من حربٍ طرفاها أنا؟
من يقنع من؟
ومن يربح إن خَسِرت؟
أعيشُ تناقضات لا تنتهي.
أُمسك الحلم بيدي اليمنى وأكسر جناحه باليسرى.
أكتب أمنياتي في منتصف الليل، ثم أُحرق الورقة صباحًا.
أُخبر نفسي: "غدًا تبدأ من جديد"… وفي الغد، أقتل البداية قبل أن تولد.
أنا ساحة حرب لا تسكن،
أنا المقاتل والقتيل،
أنا من يبكي على جثتي، ثم يمسح دموعي ويقول: "قم، لم ينتهِ بعد."
أشعر أحيانًا أنني لست شخصًا واحدًا…
بل مجموعة أشباح تسكنني،
كلٌّ منها يطالب بالقيادة، كلٌّ منها يصرخ: "أنا الأحق!"
لكن لا أحد يسمع.
فأنا الوحيد هنا،
الوحيد في هذا الزحام.
أتوق للهدوء…
لصوت داخلي واحد فقط،
لرغبة لا يحاصرها الخوف،
لقرار لا تمزقه الاحتمالات.
لكن الحقيقة؟
أنا لا أعرف من أنا أصلًا.
هل أنا ما أريد؟
أم أنا ما أمنع نفسي عنه؟
هل أنا النور الذي يراودني كل ليلة، أم الظلمة التي أختبئ فيها كل نهار؟
هل أنا الجرح، أم الإصبع الذي يضغط عليه كلما شارف على الالتئام؟
ضائع…
لا بين الطرق، بل بين النوايا.
بين "أستطيع" و"ربما لا".
بين "سأكمل" و"ما الفائدة؟"
بين رغبة في الحياة… ورغبة في النوم الطويل، الطويل جدًا.
كيف أُنجيني مني؟
كيف أضع يدي على كتفي وأقول لنفسي: "كفى، لقد سامحتك، لا بأس أن تخطئ، لا بأس أن تخاف"؟
كيف أكون صديق نفسي بدلًا من أن أكون سجّانها؟
كيف أضمّني بدلًا من محاكمتي؟
كيف أصمت كل هذه الأصوات بداخلي وأصغي فقط لما أحتاجه… لما يشفيني؟
أنا لا أريد الكثير…
فقط قليلًا من السلام، قليلًا من الراحة منّي.
أريد أن أتنفس دون أن أشعر أنني أخون شيئًا في داخلي.
أريد أن أتوقف عن جلد ذاتي، عن إحباط أحلامي، عن مقاطعة أمنياتي كلما تحدّثت.
ضائع بيني وبيني…
ولا أحد يفهم هذه الضياع سواي،
ولا أحد يستطيع إنقاذي… إلا هذا "أنا" الذي يختبئ خلف ركام الوجع.
لكن ماذا لو أنني لم أُخلق لأُشفى؟
ماذا لو أنني خُلقت لأتعلّم كيف أعيش وأنا مكسور؟
أن أُحبني رغم فوضاي، رغم تناقضي، رغم هذا التمزّق اليومي الذي يجعل منّي شخصًا جديدًا كل ليلة؟
هناك ليالٍ…
أشعر أنني قريب من الحقيقة، من السلام، من التصالح.
ليالٍ أشعر أنني أفهم نفسي، أحتويها، أحتضنها.
أقول لها بصوتٍ خافت: "أنا هنا، لن أهرب منكِ بعد اليوم."
ولكن ما يلبث الصباح أن يأتي،
ويأتي معه شخص آخر بداخلي،
يشكك في كل شيء،
يسحبني للوراء،
ينهش يقيني،
يضحك على ضعفي ويقول لي: "كنتَ ساذجًا الليلة الماضية، لا شيء سيتغيّر."
وهكذا…
أظل أترنح بين نُسَخٍ مختلفة من نفسي،
كل واحدة تظن أنها الأصدق،
وكل واحدة لا تشبه الأخرى.
أحيانًا أنا القوي، الجريء، الواثق.
وأحيانًا أخرى، أنا الهارب، المرتبك، الخائف حتى من ظله.
هل هذه الازدواجية لعنة؟
أم أنها الحياة كما هي، بطبيعتها المتناقضة؟
هل الإنسان حقًا يمكن أن يكون ثابتًا؟
أم أننا جميعًا نتغير كل لحظة، ونتصارع بصمتٍ ولا أحد يلاحظ؟
كل الوجوه الهادئة التي أقابلها في الشوارع، هل تحمل في داخلها هذا الزلزال اليومي؟
هل هناك من يشبهني؟
أم أنني وحدي… وأنا لا أعرف كيف أكون مع نفسي؟
أحيانًا أفكر: ماذا لو كان الحل أن أستسلم؟
أن لا أبحث عن إجابات؟
أن أعيش التناقض كما هو، وأصادقه؟
أن لا أُحاول الخروج من الحرب، بل أجلس في منتصفها، وأتعلّم كيف لا أموت كل مرة؟
ربما النجاة ليست في الانتصار،
بل في القبول.
أن أقبل أنني لست كاملًا،
أنني لن أكون دائمًا على ما يُرام،
أنني لن أفهم كل ما يدور بداخلي.
لكنني رغم ذلك… أستحق أن أعيش.
هل تعرف كم هو صعب أن تكون ضد نفسك، وتظل تُحب نفسك؟
أن تكون السجان والسجين، وتُحاول أن تواسي الإثنين؟
أن تُربّت على كتفك بينما يدك الأخرى تخنقك؟
أن تضحك في وجه الناس… بينما تبكي من الداخل بطريقة لا تُرى؟
أن تكتب "أنا بخير" بينما قلبك يصرخ في صمت؟
أنا لا أريد أن أكون بطلًا…
أنا فقط أريد أن أعيش دون أن أشعر أنني أركض طوال الوقت،
أهرب من فكرة، أو ألحق بإحساس، أو أدفن ذنبًا قديمًا.
أريد أن أجلس مع نفسي…
في مكان هادئ، دون محاكمة.
دون تحقيق، دون صراخ.
فقط… جلسة صلح.
أقول فيها: "أنا أُحبك رغم كل شيء، وسأظل هنا، حتى لو تغيّرت، حتى لو ضعُفت، حتى لو خفت."
لكن حتى في لحظة الصلح، هناك خوف…
خوف من أن يكون هذا الهدوء مؤقتًا،
أن يكون مجرّد فاصل بين نوبتين من الانهيار.
كأنني لا أُصدق نفسي حينما تهدأ،
أخاف من اللحظة التالية،
أخاف من السلام لأنه ليس مألوفًا لي،
كبرتُ في حضن القلق، وتعلّمتُ كيف أحب الخوف، كيف أعيش في ظله كأنه وطن.
أحيانًا أشعر أنني أناجي نفسي كما يُناجي الغريبُ وطنه،
بشوق، وبغضب، وبأسئلة لا تجد طريقها للرد.
لماذا تركتني؟
لماذا تؤذيني كلما اقتربتُ منك؟
لماذا حين أحتاجك لا أجدك، وحين أهرب، تتبعني؟
أنا مرهق…
من محاولات الفهم، من محاولات الإصلاح، من دفن الوجع تحت ابتسامات مهذبة،
من التظاهر بالقوة أمام العالم، وأنا أنهار في صمتي،
من التماسك أمام الناس، والتفتت وحدي في الليل.
هل يعرف أحد ماذا يعني أن تُحادث نفسك كل ليلة كأنك تُربّي طفلًا خائفًا في داخلك؟
أن تُهدهده بكلماتٍ مطمئنة وأنت لا تصدقها؟
أن تُجاهد لتمنح نفسك الأمان، وأنت ترتجف؟
أكتب الآن وأنا لا أبحث عن إجابة،
بل أكتب لأنني لو لم أكتب، سأختنق،
أُحاول أن أترك شيئًا منّي على الورق،
شيئًا لا أستطيع قوله لأحد،
لأن لا أحد يفهم عمق هذا التمزق سوى من عاشه،
من ضاع بينه وبين نفسه،
من عرف أن أقسى الحروب ليست مع العالم،
بل مع ذاتك حين لا تُطيق نفسك.
كل شيء بداخلي يريد أن يهدأ…
لكن لا شيء يعرف كيف.
كأنني أملك رغبة في الشفاء، لكني لا أملك الخريطة،
ولا أعرف الطريق،
ولا أثق بالاتجاهات.
أحتاج حضنًا، لا من أحد،
بل من نفسي،
أحتاج أن أغفر لي،
أن أقول لي: "كفى جلدًا، كفى قسوة، كفى هروبًا."
أن أطمئن هذا القلب المتعب بأنه ليس مطالبًا بأن يكون مثاليًا،
وليس عليه أن يربح كل المعارك،
يكفي أن يبقى نابضًا رغم كل ما تحمّله.
أنا لا أعد نفسي بأنني سأُشفى غدًا،
ولا أنني سأفهم كل ما في داخلي،
لكنني أعدها بشيء واحد فقط:
أنني لن أتركها وحدها بعد الآن.
سأكون هنا…
حتى لو في الظلمة، حتى لو بلا أجوبة،
حتى لو استمرت الحرب،
سأحمل سلاحي وأحارب لأجلها، لا ضدّها.
سأكون هنا…
حتى لو لم أكن بخير،
حتى لو لم أفهم نفسي كل يوم،
حتى لو تغيرت أفكاري، وتبدّلت مشاعري،
سأبقى.
ليس لأنني قوي، بل لأنني تعبت من الهروب.
تعبت من دفن رأسي في الرمل كلما شعرت أن شيئًا بداخلي ينهار.
تعبت من خذلان نفسي، من تجاهل النداءات الصغيرة التي تصرخ بداخلي "اسمعني، فقط اسمعني".
هل تعرف ماذا يعني أن تكون غريبًا عنك؟
أن تمشي وأنت لا تدري من هذا الذي يسكن جسدك؟
أن تنظر في المرآة ولا ترى نفسك،
بل ترى وجهًا أنهكته المحاولات،
وجهًا يحاول أن يبتسم رغم أن عينيه مليئتان بالألم.
أخاف أن أكون قد اعتدت هذا التيه،
أنني إن خرجت منه، لن أعرف كيف أعيش.
كأن الحزن صار جزءًا من روتيني،
كأن الألم صار له مقعد دائم في داخلي لا يمكن إزاحته.
وفي أحيانٍ كثيرة، أجد نفسي أدافع عن ألمي،
أرفض أن أشفى منه،
كأنني أخاف أن أفقد هويتي إن اختفى.
لكنني تعبت.
نعم، تعبت.
ولا عيب في التعب، ولا عار في الانهيار،
فالقلوب تتعب، والعقول تتعب، حتى الأرواح تتعب.
وليس في هذا ضعف…
الضعف الحقيقي أن تُكابر، أن تتجاهل، أن تكتم صراخك الداخلي حتى ينفجر في صورة صمتٍ قاتل.
أريد أن أصرخ، لا ليس ليسمعني أحد،
بل لأسمع أنا صوتي…
لأتأكد أنني ما زلت هنا،
ما زلت أتنفس،
ما زلت أملك شيئًا يستحق أن يُقاتل من أجله.
وإن سألتني: ما الذي يُخيفك؟
سأقول: أن أبقى طوال حياتي عالقًا بيني وبيني،
أن أمضي عمري أبحث عن بابٍ للخروج من ذاتي…
ولا أجده.
لكنني الآن،
في هذه اللحظة،
أشعر برغبة صغيرة، هشة، لكنها حقيقية.
رغبة بأن أتصالح معي،
أن أبدأ، ولو بخطوة،
ولو بهمسة،
أن أُربّت على هذا القلب المتعب وأقول له: "أنا معك. وسأظل معك."
قد أعود للتيه غدًا، لا أعلم.
وقد أضعف، وقد أبكي، وقد أصرخ.
لكنني لن أحتقر نفسي بعد الآن.
لن أصفني بالجبن، لن أُقلل من وجعي.
لأن ما أمرّ به ليس سهلًا،
وهذا التناقض الذي أعيشه يحتاج شجاعة،
وشجاعتي هي أن أعترف…
أن أكتب…
أن أتكلم…
أن أُحبني، حتى لو لم أكن كاملًا.
ولأول مرة…
قررت ألا أهرب.
أغلقت الأبواب على الضجيج في داخلي، وقلت: "ابقَ… تحدث… حتى لو آلمتني، حتى لو خوّفتني… تحدث، فأنا لن أهرب هذه المرة."
جلستُ مع نفسي كما يجلس الغريب مع الغريب، نتأمل بعضنا بصمت،
كأننا نكتشف للمرة الأولى كم تشابهنا، وكم خذلنا بعضنا، وكم اشتقنا لبعض.
لم أعد أبحث عن إجابات كبرى،
لم أعد أطالب نفسي بأن تكون دائمًا على ما يرام،
فقط… تعلمت أن أهدأ،
أن أُصغي لداخلي دون إصدار حكم،
أن أحتضن التناقض كجزء من تكويني،
أن أرى في ضعفي شيئًا يستحق الرحمة، لا السخرية.
ربما لن أتخلّص من هذه الحرب داخلي،
لكنني لم أعد أخشاها كما كنت،
لأنني أدركت أنني أنا الساحة…
وكل من في داخلي يستحق أن يُفهم، لا أن يُقمع.
النجاة ليست نصرًا مدويًا…
بل ربما تكون في مجرّد أن تفتح عينيك في صباحٍ جديد،
وتقول لنفسك بصوتٍ صادق:
"أنا هنا، ما زلتُ أحاول، وما زلتُ على قيد الشعور… وهذا كافٍ جدًا."
وفي ذلك اليوم،
لأول مرة منذ زمن بعيد،
نظرت إلى نفسي في المرآة…
وابتسمت،
ابتسامة صغيرة،
لكنها كانت لي.