الإعلام في ظل البوتوكس والفيلر

 


بقلم: رنا الطويل 


كأنّ الإعلام، في هيئته المعاصرة، خضع بدوره لعمليات “تجميل” مكثفة. أصبح مشدودًا، ملساء نبرته، خالية من التجاعيد الفكرية، محقونة بالابتذال، ومملوءة بالفيلر اللفظي. مظهره براّق، لكن عمقه هش. لا يخطئ المشاهد حين يشعر أن كثيرًا مما يُعرض ليس إلا محاولات يومية لإخفاء ملامح الحقيقة خلف طبقاتٍ كثيفة من التلميع البصري واللغوي.


لم تعد الشاشات تصنع رأيًا، بل تروّج شعورًا لحظيًّا بالانشغال. تتحرك كاميراتها في زوايا مدروسة، وتنتج حوارات مدجّنة، لا تؤذي أحدًا، ولا تُربك سياقًا، ولا تثير سؤالًا وجوديًّا واحدًا. وكما يُحقن الوجه ليواري التجاعيد، تُحقن العقول بلغة ناعمة، مصقولة، خالية من الملامح، مكتفية بالشكل دون الجوهر. مذيعون مفرطو الثقة، ضيوف لا يتقنون إلا الدور، وأجوبة تنساب بلا مقاومة، بلا تحدٍ، بلا قلقٍ معرفي.


في هذا المشهد، يغدو النقاش هشًّا لا لأنه يفتقر إلى المعلومات، بل لأنه من الأساس لا ينبني على قناعة بالحقيقة أو اشتباكٍ مع الفكرة. هو هشّ لأنه غير صادق، غير حر، غير نزيه. يدار داخل استوديوهات شديدة البرودة، معقمة من القيم، تُدار فيها الأسئلة كما تُدار الإضاءة: لا لتكشف، بل لتُجمّل. أما العمق، فيُقصى، لأنه ثقيل على الجمهور، مرهق للمنتج، مهدِّد لوتيرة “الترفيه”.


في قلب هذا التجميل المُفرط، تتصدر الصورة: أحمر الشفاه، زوايا الإضاءة، تعبيرات الوجه، واختيار الثياب… حتى باتت ملامح البرامج تنتمي إلى عوالم الإعلانات أكثر من انتمائها إلى عالم الإعلام. لغة الجسد تُدرَّب بعناية، والضحكة تُقنّن بدقة، أما الفكرة فتوضع على الهامش، كعنصر جمالي غير أساسي. تتحول الصورة إلى غاية بحد ذاتها، حتى تغدو أكثر حضورًا من الكلمة، وأقوى أثرًا من السؤال.


الابتذال لم يعد انحرافًا طارئًا، بل أصبح جزءًا من المنظومة. يتسلل من خلال إيحاءات بصرية، ونبرة صوتية، ومضامين سطحية، تستثير الغرائز أكثر مما تستثير العقول. وحين يُفتعل الانفعال، ويُقنّن الجدل، وتُختصر القضايا الكبرى في مشهد أو تعليق، يصبح الهدف واضحًا: تسلية الجمهور، لا تثقيفه؛ شغله، لا تحريكه؛ دغدغة الغرائز، لا إثارة الفكر.


إنه إعلام بلا بوصلة، تائه في ضجيج “الترند”، يتنقل من إثارة إلى أخرى، دون أن يمتلك الجرأة على طرح سؤال أخلاقي حقيقي. ينتج محتوى يشبه سلوك المرايا المقعرة: يضخم التفاهة، ويقلل من شأن الفكرة. يخدر المتلقي بإبهار بصري، في وقت يتآكل فيه المعنى. يتنكر لدوره التنويري، ويكتفي بلعب دور المصفف، لا المفكر؛ المجمّل، لا المحاور.


وهنا، لا يعود الاستنكار فعل نخبوي أو ردة فعل متحفظة، بل يصبح صرخة فكرٍ يشعر بالخذلان. خذلان تجاه واقعٍ يُدار فيه الإعلام كما تُدار صناعة الموضة: كل شيء فيه يجب أن يبدو جميلًا، مهما كان فارغًا. وحين يصبح مقياس النجاح هو “كم عدد الإعجابات؟”، لا “كم فكرة أُضيفت؟”، يصبح الفكر نفسه في أزمة.


في هذا السياق، لا يبدو أن الإعلام مجرد مرآة للمجتمع، بل أقرب إلى “فلتر” فوق هذه المرآة. يُعيد تشكيل الملامح الفكرية والثقافية ليصير كل شيء أكثر نعومة، أكثر تسطيحًا، أكثر قابلية للتداول، وأقل قابلية للفهم. الإعلام هنا لا يمارس وظيفته النقدية، بل يسهم بهدوء في إنتاج حالة عامة من اللاجدوى.


ومثلما يفقد الوجه المحقون بالتجميل شيئًا من ملامحه الحقيقية، يفقد الإعلام المحقون بالتسطيح شيئًا من جوهر رسالته. فالوعي لا يُصنع في صالونات الكلام، ولا في جلسات التجميل البصري. بل يُصنع حين نسمح للتجاعيد الفكرية أن تظهر، للأسئلة الثقيلة أن تُطرح، وللحقائق أن تُقال، ولو كانت قاسية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology