مقال بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة
في زمن تتبدل فيه الحروب وتُبدّل معها أدواتها، لم تعد البنادق ولا المدافع وحدها هي التي تهدد الدول، بل ظهرت جبهات أخرى لا يُسمع فيها صوت رصاص، بل همسات ناعمة تغتال الهوية وتفكك الوعي وتُزيّف الانتماء، لتتحول الشعوب من ملاكٍ لثقافاتها إلى مستهلكين في سوق نخاسةٍ جديدة لا تبيع البشر، بل تبيع عقولهم وتشتري ولاءهم بأثمان رخيصة.
النخاسة الثقافية، هذا المصطلح الذي قد يبدو للوهلة الأولى صادماً، ليس إلا مرآة تعكس حقيقة مروّعة تعيشها أمم كثيرة، لاسيما تلك التي تمتلك رصيداً حضارياً ضخماً وتاريخاً متجذراً كجذور النيل في أرض مصر. فهي ليست مجرد ظاهرة عابرة بل مشروع منظم ومموّل وممنهج، يستهدف العقل الجمعي ويعيد تشكيل الوجدان القومي وفقاً لنماذج استهلاكية هشّة لا تستند إلى أي جذور.
إن ما يحدث حين تُستبدل اللغة الأم بلغة دخيلة في الشوارع والإعلانات ووسائل الإعلام، ليس مجرد ترفٍ لغوي، بل هو فصل قاسٍ من فصول سلخ الذاكرة. وحين يُقدَّم التراث الشعبي على أنه رجعية، ويُصوَّر الزي الوطني كرمز للتخلف، تُصبح المجتمعات رهينة نماذج مستوردة يُروَّج لها باعتبارها معيار الحداثة والتطور، بينما تُسحب من تحت أقدامها أرض الأصالة والانتماء دون أن تشعر.
تلك التجارة الموجَّهة التي تستهدف إعادة تشكيل الذائقة الفنية، وتطويع الأذواق لتتقبل الإسفاف وتستهلك الرداءة، ليست فناً بريئاً ولا إعلاماً عفوياً. بل أدوات محسوبة بعناية، تُسلّط لتفكيك الهوية وتهميش الرموز التاريخية، حتى يصبح الجيل الجديد غريباً عن تاريخه، بلا ذاكرة، بلا رموز يُحتذى بها، يستهلك بطولات وهمية، ويغني لأوهام لا تشبهه.
في ظل هذه الحالة، لا يعود الوطن مفهوماً مُلهماً، بل مجرد مكان كأي مكان. الوطنية تُعاد صياغتها كمصطلح مشبوه، والاستقلال يُقدَّم على أنه تعصب، والسيادة تُلوَّن بألوان السوق العالمية. وحين تضعف المفاهيم، تضيع الحدود. فلا يعود الدفاع عن الأرض واجباً، بل خياراً يساويه خيار الرحيل.
والأخطر من كل هذا أن تُختطف الإرادة الشعبية وتُوهن، فيغدو المواطن مُبلّداً، مستسلماً، لا يرى في الوطن غير عبء، ولا يجد في القضايا القومية إلا جعجعة لا تهمه، بعد أن تم عزله نفسياً وثقافياً عن قضاياه الكبرى، وتمت تغذيته بسرديات زائفة تمنحه الشعور الوهمي بالتحرر، بينما هو يغرق ببطء في مستنقع التلاشي.
إن النخاسة الثقافية لا تُحارب بجيوش، بل تُقاوم بوعي. لا تُردع بالأسلحة، بل تُهزم بالتربية، بالتعليم، بالإعلام النظيف، بالفن الذي يُرمم الذاكرة لا الذي يهدمها. فحين نمتلك القدرة على نقل تراثنا بلغة عصرية، ونبني أجيالاً تعي تاريخها دون أن تنعزل عن العالم، نكون قد وضعنا حجر الأساس لجدار الصد الأول للأمن القومي.
الهزيمة لا تبدأ حين تسقط المدن، بل حين تُختطف العقول. والانتصار لا يتحقق فقط على حدود الجغرافيا، بل في عمق الوجدان. لذلك، فإن حماية الهوية الثقافية ليست ترفاً فكرياً، بل هي معركة بقاء. وكل تخاذل عن خوضها هو هزيمة مؤجلة، ولو طال الزمن.
فليكن وعيُنا هو السلاح، وهويتنا هي الحصن، وذاكرتنا هي الخندق الأخير. لأن الأوطان التي تُباع في مزاد النخاسة الثقافية، لا يشتريها أحد، بل تُترك لتموت وحيدة على رصيف العولمة الباردة.