بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في كل مسيرة علمية حقيقية، هناك محطات مضيئة تخلّد في الذاكرة لا لأنها كانت سهلة أو سريعة، بل لأن في دروبها مرّ من يستحق أن يُخلَّد، من زرع فينا بذور الفهم، وسقى أرواحنا بالعلم، ومشى معنا كأننا من أهله وفلذات قلبه. ومن بين هؤلاء الكبار، يسطع اسم الدكتور الفاضل أيمن نزال، كأحد أعظم من أنجبتهم قاعات الجامعات، وأحد أنبل من ساروا في محراب التعليم، وأحد أولئك الذين لا يمرّون في حياة طلبتهم مرور الكرام، بل يرسّخون جذورهم في الوجدان، كأشجار الزيتون المباركة؛ ثابتة، معطاءة، لا تيبس ولا تتبدل.
لقد كان لي شرف التتلمذ على يديه في مرحلة الماجستير في جامعة النجاح الوطنية، حين كنت على أبواب العلم متلهفة، أطرق أبواب اللغة من مدخلها الأكثر تعقيداً: اللسانيات التطبيقية. ورغم أن هذا الحقل يبدو لكثيرين كغابة من المفاهيم والتعقيدات، إلا أن الدكتور أيمن حوّله لنا إلى بستانٍ من الدهشة، ومركبٍ من الفهم السلس، كان يدير دفّته ببراعة المعلم الصادق الذي يعرف كيف يهب العلم دون أن يُشعِرك بثقل الرحلة.
كان يحضر إلى قاعة المحاضرات بهدوء العلماء، وبهالةٍ من الوقار، وبتواضعٍ لا يملكه إلا الكبار. صوته كان يشبه نبرة الماء في جدول صافٍ، لا يعلو كثيراً، لكنه يصل بوضوح إلى أعماق القلب. وما زلت أذكر كيف كان يفتتح الحصص بابتسامة لا تعرف الاصطناع، ويقول لنا يوم الامتحان تلك العبارة الخالدة: "اكتب بلغتك، عبّر كما فهمت، لا تخف، الأهم أن تفهم وتوصل المعنى." تلك الكلمات لم تكن مجرّد إرشادٍ أكاديمي، بل كانت إعلاناً للثقة بالطالب، ومنحاً له بطاقة عبور من التلقين إلى الإبداع، ومن التردد إلى الجرأة العلمية.
في حضرته، لم نشعر يوماً أننا طلاب نمضي فصولاً دراسية، بل كنّا نعيش حالة من السُكر المعرفي، نخرج منها كل مرة ونحن أكثر توقاً للعودة. كان يطرح الأسئلة لا ليختبرنا، بل ليفتح لنا أبواباً جديدة للتفكير. وكان يصغي إلينا، لا ليصحّح، بل ليحتفي بمحاولاتنا للفهم.
مرت الأعوام، وقطعتُ درب الدكتوراه، وإذا بالدكتور أيمن يظل في المشهد، لا بصفته أستاذاً سابقاً، بل صديقاً للعقل، ورفيقاً في طريق العلم. كان يفرح بنجاحاتي وكأنه يقطفها بنفسه، ويبارك لي كمن يرى في طلابه امتداداً لرسالته النبيلة. لم أره يوماً يتحدث عن ذاته، بل كانت كل أحاديثه عن العلم، وعن الناس الذين يستحقون. وهذا لعمري، هو المعلم الحقيقي، الذي ينقش اسمه في صفحة القلب لا في سجل الجامعة فقط.
فلك مني يا دكتور أيمن، شكراً بمداد القلب، وامتناناً لا يُنسى. شكراً لأنك لم تكن فقط منارةً على طريق العلم، بل كنت دفئاً في برد الغربة الأكاديمية، وكنت السند حين كانت الحيرة تداهمنا، والصوت الهادئ حين تعلو ضجة الامتحانات والمواعيد.
نعم، "إنما الإنسان أثر"، وقد كنتَ ولا تزال من أولئك الذين يتركون أثراً لا يُمحى، أثراً يشبه رائحة الكتب الأولى، لا تغادر الذاكرة أبداً. فطوبى لك هذا العلم، وطوبى لتلك القلوب التي مررت بها، فأنبتت امتناناً وعلماً وذكراً طيباً لا يذبل.