نداء الطين لعبد الرحيم جداية .. بين الوفاء للأصل والانفتاح على التجريب



بقلم: ايمان زيادة 


صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع ديوان "نداء الطين" في طبعة متوسطة الحجم، جامعًا بين دفتيه ١٨٨ قصيدة توزّعت بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة. هذا التنوع ليس مجرد زينة شكلية، بل يعكس فلسفة شعرية تسعى إلى التوازن بين الوفاء للأصل والانفتاح على التجريب، بين الجذور والانفعال الإنساني، بين النداء الرمزي والصرخة الحماسية.


دلالة العنوان


العنوان "نداء الطين" لا يقف عند حدود الاستعارة البسيطة، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فهو رمز وجودي وروحي: الطين هو أصل الإنسان، وهو ذاكرة الأرض التي تستدعي الإنسان للعودة إلى ذاته وانتمائه، إلى طهارته الأولى، إلى الجذور التي تشكّل كينونته. إنه نداء للحياة في جوهرها، للإنسان في حقيقته، للغة في قدرتها على الإبداع والتجدد.


الإهداء


الإهداء جاء عامًّا وخاصًّا، إذ أهدى الشاعر ديوانه إلى كل شرفاء الوطن والإنسانية، ولكل الشعراء، ثم خصّ أصدقاءه المقرّبين الشعراء: حسام العفوري، نضال القاسم، خالد الفهد مياس، أحمد الحسن، إبراهيم الطيار، ليعكس تلازم التجربة الفردية بالشبكة الإنسانية والشعرية الأكبر.


نداء الطين: الأرض أنثى ص ص66- 67:


قصيدة "نداء الطين" تكشف عن ملامح جوهرية في تجربة الشاعر؛ إذ ينهض النص على جدلية الأصل والوجود، في استدعاء للطين بما هو مادة الخلق، وأيقونة الانتماء الأولى، ومجاز الهوية الإنسانية. منذ المطلع:


أشم تربك في الكفين لم تزلِ // غيداء ذائبة في أسود المقلِ


تتجلى اللغة في صورة حسية عابقة، حيث يمتزج الشمّ باللمس بالبصر، لتصبح التربة كيانًا أنثويًا حيًا، "غيداء" ذائبة في المقل، وكأن الأرض ليست مجرد مادة، بل معشوقة تسكن النظر والذاكرة.


ويتابع الشاعر بناء الصورة عبر ثنائيات رمزية: الأرض غزالة، الطين رائحة، الماء حياة، والأنثى "ترياق" و"غمامة". هذه الصور تتضافر لتشكّل نسقًا إيحائيًا مزدوجًا: الأرض/الحبيبة، الطين/الهوية، المرأة/الخلاص. فالقصيدة تتكئ على ما يمكن أن نسمّيه ثنائية الأنثى والأرض؛ إذ تتخذ الأرض هيئة الأنثى التي تمنح وتفيض، (الأرض أمّ، والمرأة أرض، الأرض غزالة) وهذه رموز راسخة في المخيال العربي.


أما عن البنية الإيقاعية فهي عمودية، لكنها لا تستسلم لجمود الوزن، بل تنفتح على إيقاع داخلي يتولد من التكرار "ناديتُ ناديتُ كم ناديتُ" ومن التوازي الدلالي الذي يمنح النص أنفاسًا وجدانية متلاحقة. إن اختيار البحر البسيط ينسجم مع النزعة التأملية الممتدة، التي تمنح القصيدة فسحة للانسياب والتصعيد الشعوري.


اللافت أيضًا هو حضور المكان كرمز:


يا أرض حوران هل نادتك كورتها // مذ كنت ترقد يا جنبيك بالعللِ


هنا يتجسد المكان بوصفه ذاكرةً جمعية، ليست جغرافيا وحسب، بل وعاءً للزمن والعلل والنداءات. حوران ليست مجرد أرض، بل هي التاريخ والجرح والحنين.


أما في المقطع الأخير، تتكثف العاطفة والموسيقى والرمزية:


ناديتُ ناديت كم ناديت في ولهٍ // نعسانة العين من عينيَّ فاكتحلي


تندمج الذات الشعرية بالأرض/الأنثى اندماجًا وجدانيًا، وكأن "نداء الطين" ليس إلا صدى النداء الداخلي للشاعر نفسه. هنا يصبح الخطاب حوارًا وجوديًا: بين الذات والآخر، بين الشاعر وأرضه، بين الطين والإنسان.


قصيدة نداء الطين تقدم نموذجًا على ما يميز الديوان بأكمله، يمزج بين الحسي والرمزي (التربة غيداء، الطين له رائحة)، ويظهر فيها الوفاء للشكل العمودي مع استثمار داخلي للإيقاع والدلالة، وتعزز الانتماء المكاني: حضور حوران بوصفها أيقونة هوية وذاكرة.


غاية المجد: العمود الحماسي والفداء الملحمي ص ص114- 116:


قصيدة غاية المجد تمثل نموذجًا للوجه الحماسي والملحمي في الديوان:


غاية المجد أن تموت شهيدًا // تقهر الموت كي تعيش عنيدًا


هنا يتضح البناء الجدلي: الموت ليس نهاية، بل وسيلة للخلود؛ والمجد لا يتحقق بالعيش الطويل، بل بالاستشهاد. إن البنية الثنائية (الموت/الحياة، الضعف/العناد) تشكّل العمود الفقري للنص، مانحة إياه بُعدًا فلسفيًا في ثوب حماسي.


القصيدة تتدرج عبر صورها في رسم لوحة وجدانية للشهيد؛ فهو ليس غائبًا يُرثى، بل حضورٌ يتكثف في "النهر" و"الدوالي" و"العطر". يقول الشاعر:


   أنت مني وبعض بعضك بعضي // يا شهيدًا رأى الفداء شهيدًا    


بهذا التكرار المتعمد (بعض بعضك بعضي)، (شهيد/شهيدًا) تتحول المخاطبة إلى اندماج، تذوب المسافة بين الأنا والآخر، بين الشاعر والشهيد. وفي مقاطع أخرى، نلمس وعي الشاعر بأن الرثاء إذا ظل بكائيًا فإنه يضعف قيمة التضحية، لذا يؤكد:


لست أبكيك إنَّ عينيَ تهوى // ويح دمعي فهل عرفت المريدا


إنها محاولة لرفع الشهيد من مقام الفقد الفردي إلى مقام الرمز الجمعي، ليصبح موته حياة للآخرين.


من الناحية الإيقاعية، جاء اختيار البحر والقافية مناسبًا: البحر الخفيف بما يحمله من امتداد ووقار، والقافية الموحدة على "ـيدا" بما تضفيه من صرامة ورنين متكرر، يعزز الطابع الملحمي للقصيدة.


قصيدة غاية المجد تمثل وجهًا آخر من الديوان: فإذا كانت نداء الطين قصيدة رمزية/تأملية تعود بالإنسان إلى أصله الطيني، فإن غاية المجد قصيدة عمودية حماسية تعيد للشعر العربي نبرته القتالية الفخورة، حيث تلتقي البطولة بالفن، والشهادة بالشعر، في وحدةٍ تجعل القصيدة وثيقة وجدانية وفكرية في آن.


طفل على صدر غزة: التفعيلة والانكسار ص ص 137- 139:


قصيدة طفل على صدر غزة تكشف الوجه التفاعلي والانفعالي للتجربة الشعرية المبنية على وحدة التفعيلة، البنية التفعيلية الحرة، تعتمد على الانقطاعات الداخلية والجمل القصيرة، بعيدًا عن الوزن التقليدي، مما يعكس الثورة على التقليد السياسي والاجتماعي.


اعتمدت على الرموز: الطفل (البراءة)، غزة (الوجع الجماعي)، الورد والندى (الحياة الطبيعية)، البارود والصمت (القهر والخنق).


تكرار السؤال "لم لا…" يخلق إيقاعًا داخليًا متوترًا، يحاكي نبض القلب المضطرب.


هذا النص يضجّ بالألم الوجودي الممزوج بالحب والفقد والخذلان، ويشكّل صرخة شعرية تمزج بين الرقة (الورد والندى) والعنف (البارود والصمت القاتل). إنه نص يُمكن قراءته بوصفه مرثية للذات والعاطفة والمدينة – غزة – التي تتحول إلى معادل موضوعي لكل معاني الموت المعلّق


في هذا المقطع الشعري، يطرح الشاعر تساؤلات وجودية بمرارة شاعرٍ مأزوم، يستهلّها بسؤال بسيط في ظاهره:

"لم لا نموت


 كما يموت الورد


 يغمره الندى؟"

وهو سؤال بقدر ما يحمل من جمال شكلي، يحمل في عمقه رغبة في موتٍ جميل، ناعم، لا يشبه هذا الفقد الموجع الذي يعيشه الشاعر، موت يشبه حياة الورد، لا الحياة التي يشبهها البارود.


يتوسّع النص إلى البُعد العاطفي – الإنساني – في قوله:

"لم لا أقول أحبها


وتحبني؟"

وهنا يقترن القمع الخارجي بالقمع الداخلي؛ فالشاعر لا يملك حتى أن يقول، أن يُعبّر، كأن الاعتراف بالحب ترفٌ في ظلّ قمعٍ مزدوج: خارجي (بارود الاحتلال)، وداخلي (صمت الذات).


ثم يجيء النداء الحاسم:


" يا غزة


 البارود يخنقني

فتتحول الحبيبة إلى المدينة، أو المدينة إلى الحبيبة، ويظهر "البارود" كقوة خانقة، تمنع حتى الاعتراف بالمشاعر. غزة لا تغدو فقط مكانًا، بل رمزًا للقهر، للحصار، للمحبوبة التي نعجز عن لمسها أو البوح لها.


يتكثف التوتر الوجودي مع استمرار الشتات الدلالي في الأسطر:

"إذا


تمادى البرد وانسحب


الضياء"

حيث يتراجع الدفء والنور، ويحلّ الظلام الكامل، تمهيدًا لانهيار داخلي أعمق.


وفي:

"قل يا سماء


 في كفه


 كفنٌ ينازعني المساء"

تبدو الصورة مكثفة وعنيفة، فالمساء لم يعد مجرد زمن، بل خصم ينازع الشاعر على الكفن، أي على الموت، وكأن كل لحظة مساء هي موت جديد.


ويأتي الختام قاسيًا ومجردًا:

"الصمت يقتلني ويقتل عاشقًا"

فالصمت هنا ليس مجرد انعدام للكلام، بل اغتيالٌ للمعنى، للحياة، للحب، يُذبحون تحت سطوة هذا الصمت القامع.


هذا النص يندرج ضمن شعر المقاومة الوجداني، إذ يدمج الخاص (الذات والعاطفة) بالعام (غزة والبارود)، مستفيدًا من أسلوب الأسئلة المفتوحة والرموز الثقيلة. ورغم لغته البسيطة، إلا أنه مشبع بتوتر داخلي حاد، وبكثافة دلالية تجعل من كل سطر طعنةً أو تنهيدة.


وفي ختام القصيدة يرفع الأمل إلى مستوى رمزي:


والنصر نصر الله


يعطى من أتى


في كفه رمح


وفي الكف


المدى


القصيدة تبرز قدرة التفعيلة على احتواء الانفعالات الصاخبة، وتقديم الصوت الشعري كصرخة وجدانية تتجاوز حدود الزمان والمكان.


وفي قصيدة "ما يبكيك يا رجل" ص ص 185-187:


يبثُّ الشاعر صوتًا وجدانيًا عميقًا يتقاطع فيه الألم بالرجاء، والحسّ الأبوي بالحلم المؤجّل، ويُظهر الشاعر عبد الرحيم جداية قدرته على تشكيل صور شعرية تُراوح بين الرمزية والبوح الصريح، مع اتكاء واضح على الموسيقى الداخلية للعبارات.


في قوله:


أمدُّ يدي


وفي كفّي صليلُ النار يشتعل


أمدّ يدي


وفي صدري همومُ الليل تعتمل


نلمح توترًا بين الفعل الحاني " أمدّ يدي" وبين "صليل النار" الذي يُحيل إلى الخطر أو الألم المختزن، ما يخلق صورة مزدوجة: يدٌ تمتد بالعطاء رغم ما تحمله من وجع وشرر. كما نرى أن الليل يتحول إلى كائن داخلي، تغلي همومه في الصدر، مشكّلة استعارة مكثفة عن الاحتراق الداخلي.


أمد الراحة البيضاء يا ولدي...


 أتحتمل؟


لنا الذكرى


 لنا المستقبل الآتي


 لنا الأيام رسمها


 ونكتبُ أنك الأحلام يا زحل


يعتمد الشاعر على خطاب مباشر إلى الابن (يا ولدي)، فيبثه الحلم والأمل معًا، لكن الخطاب لا يخلو من رجفة الخوف: "أتحتمل؟"، سؤال مفصلي يُعلّق المصير على قوة المتلقي وقدرته على الاستمرار، وكأن النص كله يقف بين التوريث والرجاء، بين جراح الماضي ورسم المستقبل.


أيبقى الكأس ساقيتي


ويبقى طبعنا الأمل


 يفتح الشاعر أفقًا تأويليًا غنيًا؛ فالكأس قد تكون كأس الألم أو العطاء، والساقية ترمز للدوران أو الاستمرارية، أما الأمل فهو "طبعنا"، أي جوهرنا، وكأن الشاعر، رغم حرائق الداخل، يُؤمن بأن فطرة الإنسان السامية لا تخون الأمل.


النص، في مجمله، لا ينقل وجعًا ذاتيًا بقدر ما يعبّر عن حالة إنسانية جمعية، تُلامس ثنائية الانكسار والصمود، مستفيدًا من نغمة الخطاب الحواري، وتوظيف الصورة الكثيفة، دون أن يتخلى عن البساطة في التوصيل وصدق الانفعال.


هذا النص الشعري ينبني على لغة شعرية كثيفة بالرمز، مشبعة بصور متحوّلة ومراوِغة، تجعل القارئ في حالة من الترقّب والتأويل، فهو نص ينتمي إلى الشعر التأملي الرمزي، حيث تتداخل ثنائيات الضوء والظلام، الحضور والغياب، النهار والليل، في نسيج لغوي متوتر وموارب.


"تموء الخيام"ص173


 وفي قصيدة تموء الخيام فإنها تنقلب إلى كائنات حية تموء بفعل الأنسنة، ما يعزز أجواء الوحشة والانفصال، فكأن الحضور نفسه يسير نحو الفراغ، وتصبح الخيام رمزًا للانتظار العقيم أو للوطن الذي فقد دفئه، والمواء هنا ليس بكاء القطط، بل استعارة لأنين البيوت، للمهابة الصامتة، أو الفقد.


يفر الضياء


ويلقي السلام على مشرقيها


يلوذ خفيفا على وجه غيمٍ


لتحصد ظل الغياب


ذئاب الظلام


يهم الحضور


إلى مغرب الأفق يخلو


تموء الخيام


 تفر إلى معصميه


تردد ليلًا


وتأبى نهارا"


يفتتح الشاعر بجملة: "يفر الضياء ويلقي السلام على مشرقيها"، وهي صورة تُجسد الضياء ككائن حيّ يهرب، ولكنه لا يقطع الصلة تمامًا، بل يلوّح بالسلام، كأنّه ينسحب دون قطيعة، مما يشي بحضور الوداع الحزين، و**"مشرقيها"** – رغم غرابتها النحوية – توحي بجهة الأمل أو الأنثى التي كانت مركز النور.


ثم تتوالى الصور المركبة: "يلوذ خفيفًا على وجه غيمٍ"، مما يعكس خفة الضياء وتلاشيه في معالم مائعة وغير مستقرة (الغيم)، ليتحوّل بعدها إلى فريسة: "لتحصد ظل الغياب ذئاب الظلام"، وهي استعارة مكثفة للعتمة التي تفتك بما تبقّى من أثر النور، فالغياب هنا ليس مجرد غياب فيزيائي بل وجودٌ قاتلٌ ينهش البقية الباهتة من الضوء.


ويُختتم النص بحالة ضبابية من الانكسار الصامت:


"يعود الحضور


 يحن الغياب


 وينسى الكلام"


وهي جملة تنزلق نحويًا وصوتيًا، كأنها تتلعثم، لتعكس ضياع البوصلة بين الحضور والغياب، ويصبح "الكلام" ذاته – وهو رمز الوعي والتعبير – منسيًا، ما يؤكد أن الذات الشعرية وصلت إلى عتبة الصمت الوجودي.


في المجمل: هذا النص يشتغل على مستويات لغوية رمزية عميقة، تفتقر أحيانًا إلى وضوح المعنى التقليدي، لكنها تعوّض ذلك بكثافة الصورة، وتكسير الزمن والمكان، وفتح أفق التأويل.


الخاتمة


يقدم ديوان "نداء الطين" لعبد الرحيم جداية نصوصًا تنبض بالهم الإنساني والوجودي، وتوازن بين البوح الفردي والوجع الجمعي عبر لغة شفافة وصور مشهدية متماسكة. وقد استطاع الشاعر أن يوظف الرمز والتناص والأنسنة بوعي في شعره ليحول الطين إلى ذاكرة ونداء يتجاوز حدود الذات والجغرافيا، وبذلك يرسخ الديوان مكانته كتجربة شعرية صادقة، تؤكد أن الشعر ما زال قادرًا على أن يكون صوت الحياة في مواجهة الصمت.





إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology