الموسم الماطر

 


الكاتبة ريحاب مدين 

البارحة، كان قد عاد ليلاً متأخراً، وحيداً كما اعتاد دائماً. فمنذ أن رحل جدّه بعد مرضه الطويل، تاركاً له قصراً كبيراً قديماً، محاطاً بحديقة واسعة على مرمى البصر، ذات الأسوار العالية، يرقبها حُرّاس كثر مقابل تملّك جزء منها كما وعدهم جدّه.

فقد التهم مرضه الذي توفي فيه طائل الأموال، أُفرغت الخزائن وفنيت الأموال، وكان الإهمال قد طال كل شيء. أصبح القصر قديماً مهملاً، أشباحاً لأشياء كانت هنا ثمينة!!!

هنا كان تُقام الحفلات الساهرة والمآدب الكريمة للفقراء.

وصارت الحديقة غابة ذات أشجار عجوز، وأعشاب غطت كل شيء، وكلاب ضالة تسكنها!!!!!

دخل قصره المهجور، صامتاً متخفياً من زوجته الساهرة تنتظره، فقد نام الصغير وسكن كل شيء. جلس بجوار المدفأة الكبيرة، خالية الأخشاب، يتأمل ويتذكر رغد العيش الذي كان، وزواجه صاحب الخمسة أعوام.

فقد كان في الموسم الماطر… وهو الآن لا يملك شيئاً. ديون تحاصره، وأعباء لا يطيقها، فهو بلا عمل!!! نفذ كل شيء… صعد غرفته يمشي حذراً، تستيقظ زوجته ليخبرها أنه سيسافر، تاركاً خلفه كل شيء.

قالت:ـ كانت المسافات بيننا رأسية قصيرة، وتصبح غداً أفقية ظالمة، لا ترانا فيها ولا تسمعنا… أهكذا، دون كلمات تودعنا!!! ما أروع الرحيل دون وداع!!!

حان الوقت… أمتعته مغلقة وحقائب، ودموع… ليل بارد. فقد أعلنوا في المذياع بالأمس أن غداً يبدأ الموسم الماطر.

حملت في يدها مصباحاً تطفؤه الريح، صارت تصطحبه نحو السلم، صاحت:ـ احذر… درجات السلم مكسورة…إنه لا يكترث… ويمضي… يصطدم… صرخ:

ـ قدمي… آه، جرحت، إنها تنزف…

عاد وصعد الغرفة، مزقت ثوب زفافها ذو الأعوام الخمسة، ضمدت به جرحه الذي تعلم أنه ليس بقدمه!!!

قالت:ـ ابقَ معي، لا ترحل… سنحتمل هذا سوياً. ألم تعهد إليّ منذ سنوات، في تلك الغرفة يوم أفضينا، أن لقيمات صغيرة يأكلها أحدنا تسد رمق الآخر، وحرارة أشواقنا تلهب رياح الموسم الماطر؟ ألم تصطفني على هذا الفراش لنفسك!!! ألم تُلقِ إليّ بمحبتك!!! ألم تمنحني غليظ مواثيق الهوى!!!

وأنا الأخرى قد اصطفيتك… أتذكر أصوات فرحتنا؟ أتذكر أنوار سعادتنا؟ هل زالت عنك السكرة؟ والآن… التهمتك الفكرة…

صاح:ـ اسكتي!!! لم يبقَ من آمال حياتنا غير آلام الجوع، وجوال الأرز الفارغ بالخارج. لم يبقَ من نور سعادتنا غير نور المدفأة الخافت، الذي يطلب خشباً فلا يجد للموسم الماطر… لم يبقَ من أصوات فرحتنا غير صراخ الطفل الباكي بالخارج…

قالت، وهي تُقبّل قدمه الدامية:

ـ لن أدعك ترحل…

انتفض، لا يستسلم، يركض بالأخرى… كل مستحيلاته.

قالت:ـ احذر، حراس الحديقة بالخارج…وخرج… لحظات… وأصوات طلقات… وصياح أحد المارّة بالشارع:

ـ يبدو أن الحراس قد أصابوا لصاً…فزعت إليه:

ـ ويلي… الرصاصة أصابت قلبك…

قال:ـ لا… الرصاصة… أصابت فكري…وعاد إلى قصره، ينتظر… الموسم الماطر.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology