بقلم المهندسة شهد القاضي
حين يموت القلب… لا يعود للوجع سلطان، ولا للخذلان وطأة، ولا للخيبة أشواك تغرسها في الصدر.
يموت القلب، فتُطفأ نار العاطفة التي أحرقتنا دهورًا، وتنقشع غيوم الانتظار التي ظلّلَت سماءنا بلا مطر.. عندها فقط، يبدأ الإنسان بالتذوّق الحقيقي لطعم الحياة؛ طعمٌ خالٍ من مرارة التعلّق، خالٍ من سُمّ الرجاء المعلَّق بخيوط الآخرين.
يموت القلب، فتنكسر قيوده، ويتحرر من أسر الأمل الكاذب، ومن سجون الحنين المبتورة.. يموت القلب، فينهض العقل سيّدًا، ويصير الجسد حرًّا من أصفاد المشاعر الثقيلة.. عندها تُصبح الحياة أشبه برحلة هادئة، لا يُعكّر صفوها صوت الخيانة، ولا يُظلم دربها بظلّ الغياب.. ويا للعجب… كيف يكون الموت حياة، وكيف يكون الفقد نجاة!
حين يموت القلب، يزول ذاك الارتجاف الذي كان ينهش الروح مع كل نظرة غادرة، وكل كلمة جارحة. يُمحى أثر الذين مرّوا كالعابرين في سوقٍ مزدحم، تركوا ضجيجهم، ثم مضوا دون اكتراث.. لم نعد نُلاحق السراب، ولم نعد نُشيّد قصورًا فوق الرمال.. لقد صرنا نرى الأشياء كما هي، لا كما تزيّنت لنا حين كان القلب يلهث خلف الوهم.
عندما يموت القلب… تُولد الحكمة..
نكتشف أن السعادة ليست في عناقٍ يُفلت، ولا في وعدٍ يُنقض، ولا في يدٍ سرعان ما تنسحب من يدنا.. السعادة في أن نتكئ على أنفسنا، أن نُصادق وحدتنا، أن نُشيّد في أرواحنا قلاعًا لا تهتزّ بغياب أحد.. هناك تبدأ متعة الحياة، لأننا أخيرًا نُدرك أن متعتها لم تكن يومًا في الآخرين، بل فينا نحن، في قدرتنا على الاكتفاء، في صلابتنا بعد الانكسار، في هدوئنا بعد العاصفة.
وكم هو مدهش أن يُصبح الصمت أمتع من كل حديث، وأن تغدو العزلة أكرم من كل صحبة، وأن يكون الغياب أصفى من كل حضور زائف.
حين يموت القلب، لا نعود نتوسل الحب، ولا نمد أيدينا صوب أبواب مغلقة.. نصبح كبارًا على الشكوى، عظماء في الرضا، نضحك ملء وجوهنا ونحن نعلم أن لا أحد يستحق دمعة كانت يومًا تسيل لأجله.
إنه موتٌ لا يُحزن، بل يُحرر..
موتٌ يجعل الروح أقوى، ويمنح الجراح معنى، ويحوّل الخسارات إلى أوسمة بقاء.. عندها يبدأ العمر الحقيقي، عمر لا يُقاس بالسنين، بل يُقاس بلحظة الانعتاق.
فما أروعه من موت، وما أجمله من ميلاد!
موت القلب… وبداية الحياة.