الصمت شريك في الجريمة قراءة في رواية "قصة موت معلن" ل غابرييل ماركيز



بقلم سهى زيدان


غابرييل غارسيا ماركيز، الروائي الكولومبي الحائز على نوبل، كان  كاتبا و صانع عوالم تنبض بالحياة، حيث تمتزج الحقيقة بالخيال ليكشف عن جوهر الإنسان. في قصة موت معلن، يضعنا أمام مأساة مكشوفة سلفا، جريمة يعرف الجميع أنها ستحدث، لكنها تقع رغم ذلك، كما لو كانت مقدرة منذ الأزل. لا يسأل القارئ "ماذا سيحدث؟" بل "لماذا لم يمنع أحد ما حدث؟". الصمت هنا ليس مجرد خلفية، بل قوة فاعلة، حضور ثقيل يوازي الجريمة نفسها.


ماركيز، بأسلوبه الفريد، لا يقدم سردا خطيا تقليديا. القصة تتشكل من شهادات متفرقة، أصوات متداخلة، وذكريات تتكرر في محاولة يائسة لإعادة ترتيب ما حدث. لكن مع كل إعادة، يتضح أن الحقيقة ليست مجرد لحظة، بل نسيج معقد من الاحتمالات الضائعة. يخلق هذا البناء السردي إحساسا بالعبث، كأننا محاصرون داخل حلقة لا نهائية من اللوم والتردد والصمت، حيث يبدو القدر وكأنه يمضي بلا مقاومة، لكنه في الحقيقة يصنع لحظة بلحظة عبر قرارات البشر، أو بالأحرى، عبر إحجامهم عن اتخاذ القرار.


المجتمع في الرواية ليس شاهدا محايد، بل هو متواطئ بامتناعه عن الفعل. الجميع كان يعلم أن سانتياغو نصار سيقتل، ورغم ذلك، لم يحاول أحد منعه بجدية. الحجج تتعدد: البعض لم يأخذ التهديدات على محمل الجد، آخرون ظنوا أن أحدا آخر سيتدخل، والبعض خاف من التورط. كل هذه الأعذار تصنع جدارا غير مرئي، جدارًا يحكم على الضحية بالموت قبل أن ينهال عليه الطعن.


هذا الصمت الجماعي يعكس كيف يمكن للمجتمع أن يتحول إلى آلة تنفذ حكمًا دون أن تصدره رسميا. في كثير من الأحيان، لا يكون الظلم فعلًا مباشرا، بل نتيجة سلسلة من التخاذلات الصغيرة، من الكلمات التي لم تقل، من الأفعال التي لم ترتكب. ماركيز لم يكتب عن تلك القريه الصغيره على شاطىء الكاريبي ، بل عن كل مكان يغدو فيه العرف أقوى من العدالة، والخوف أقوى من الضمير، والصمت أقسى من الجريمة ذاتها.


عندما ننظر إلى واقعنا، كم من مرة شهدنا ظلما، ومررنا به كأنه لا يعنينا؟ كم من مرة خفنا من التدخل لأننا افترضنا أن الآخرين سيفعلون؟ كم مرة اخترنا الصمت، ليس لأننا نؤيده، بل لأننا لم نملك الجرأة على مواجهته؟ 

"قصة موت معلن" هي  مرآة تعكس كيف يصنع الصمت القاتل مآسي متكررة في كل زمان ومكان.


ماركيز، الذي أبدع في تصوير الحياة اللاتينية، عاش في عالم شهد تقلبات سياسية واجتماعية حادة. وُلد عام 1927 في أراكاتاكا، كولومبيا، وترعرع في بيئة شكلت خياله الأدبي، حيث القصص الشعبية والتقاليد الصارمة كانت جزءا من النسيج اليومي. انتقل إلى الصحافة، حيث صقل مهاراته في السرد، قبل أن يكتب أعمالا خالدة مثل "مئة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا".

 في "قصة موت معلن"، يوظف كل ما تعلمه عن السلطة، والخرافة، والقدر، ليخلق سردا يبدو حتميا كأنه قانون طبيعي، لكنه في جوهره ليس سوى انعكاس لاختيارات البشر، أو بالأحرى، لاختياراتهم التي لم تتخذ.


وربما هذا هو السؤال الذي يتركه ماركيز في نهاية الرواية: كم مرة رأينا ظلمًا ولم نفعل شيئًا؟ كم مرة كنا شهودا على جريمة، كبيرة أو صغيرة، واكتفينا بالصمت؟ هذه ليست قصة عن قرية بعيدة، بل عن كل مجتمع يختبئ خلف العادات، عن كل صمت قاتل نرتكبه يوميا .

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology