مذاق الحنين



 بقلم لجين السيريسي

يستيقظُ الواحدُ منا يوميًا على منبهٍ يربطه أو على صوتِ إزعاجٍ خارجي، وإما يحصلُ زلزالًا في قلبه فيستيقظ جَزِعا ، ومهما تكن طريقة الاستيقاظ فإننا نستيقظُ جزعين نحاولُ في لحظات استعادة الذاكرة والتفاصيل، استعادة الواقع بعد نوم عميق أو نومٍ متقطع في ليلةٍ مثخرةٍ بالحنين.

برهةٌ واحدةٌ لاستعادة الواقع كأنَّه رمال تنهمرُ دفعةً واحدةً بعد تكديسها في كفة التخدير، لحظات ويستيقظُ المرءُ من دوار النوم لاهثًا وراء الرزق، وبعضُنا لاهثًا وراء المعرفة، كلُّ واحدٍ منا في طريقِهِ يسير.

وفي الطريق بعد الاستيقاظ يسقطُ جدارُ الحنينِ هادمًا ذاكرةِ النسيان، يفرضُ نفسه حاضرًا حضورًا كبيرًا، يشرئبُ بعنقهِ على مطلّ اليوم الجديد، جالسًا بتكبر دون رحمةٍ سائلًا إيانا أسئلةً قويةً بمذاق النكهات الحادة اللاذعة، أجوبتها بحاجةِ الصّدقِ والروية في آنٍ واحد لإطفاء حدتها.

ذاك الحنين فارضٌ نفسه بأكواب القهوة، وأحاديث الأهل والأصدقاء وعند زاوية الشّارع المقابل لمنزل الطفولة. يحلُّ مذاقه في جميع أكواب اللحظات، عند شراء حاجات المنزل، وربما عند شراء الكتب، ومهما يكن فهو يبدأ بفرض حضوره عند استيقاظك  وإدراكك الواقع.

إذا أردت الصفاء مع نفسك بعد يومك الطويل ستجده مبحلقًا فيك بلا منازع، تستمعُ للموسيقى وهو مبحلقٌ بكل جرأة بل ويتعدى الجرأة إلى تبجح كبير، وفي أحايين كثيرة ستجده يتعرى أمامك بجسارة دون رادع وخجل.

إنَّ الحنين لا يخجل بل يتعرى أمام الذاكرة، يجلس بجانبك دون شرع وحلال محقًا له، أمٌّ بجانب أطفال في الحديقة تحنُّ إلى أطفالها الموتى، رجلٌ في الطائرة يحنُّ إلى عائلته، امرأةٌ أشتعلَ الشيبُ في رأسها تحنُّ إلى ذكريات الصِبا إلى جسدها الممشوق إلى الخُضرَةِ فيها، طفلٌ يكبرُ وهو لا يعلم أنَّ حجم الحنين يكبرُ معه أيضًا ليداهمه في مرحلة ما ويقول له: توقف ألا تتذكر؟

مواقف الحنين كثيرة لا تُنسى، هو يصبُّ نفسه بالذاكرة كالوقود ليشعلها ويجعلها تحترق ليلًا، من هو هذا الحنين؟ من أين أتى؟ لماذا يرافقنا؟ 

دائمًا الحنين مرتبطًا بالبدايات، بدايات الطفولة، الشباب، العلاقات، ويتجلى في النهايات التي تصبح ماضيًا، يصبحُ  مرتبطًا بالروائح، التفاصيل، وبصورة أكبر في الصّور، ففي كل الأشياء يربض بوعي وبدون وعي.

نحنُ نَحِنُّ لأننا لا نملك الخيار، لأنّ هويتنا تشكلت مع هذا الحنين الذي بدأ يكبرُ معنا منذ الطفولة، نحنُ نتوه عن أنفسنا لنجدنا في دوامة الحنين، وكأنَّ الحنين يصرخ أنا الهوية أنا الوجود.

وفي الشعر العربي نجدّ الوقوف على الطلل وتذكر الأيام الخوالي كان جزءًا لا يتجزأ من القصيدة العربية فيما مضى، فالحنين دائمًا له وقع خاصٌ، ونجد فيروز تقول في إحدى أغنياتها "أنا عندي حنين ما بعرف لمين" 

يبقى السؤال هل الحنين جزءًا لا يتجزأ من هويتنا؟ أهو ضرورة أم فيضُ مشاعر؟ أهو يلعبُ معنا أو نحنُ متعلقون به؟

ففي كلّ واحد منا حنين لأشياء كثيرة معروفة وأشياء غير معروفة.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology