أمين معلوف والهويات القاتلة: كيف ننجو من انتماءاتنا؟

 


بقلم: سهى زيدان


الهوية، تلك الكلمة التي تبدو في ظاهرها بريئة، تتحول في أحيان كثيرة إلى عبء خانق أو إلى خنجر مشرع في وجه الآخر. فهي ليست بطاقة شخصية تُبرز عند المعابر، ولا مجرد انتماء عابر، بل شبكة معقدة من عناصر متداخلة: الدين واللغة والتاريخ والذاكرة الخاصة والانتماء السياسي والثقافي. وإذا كانت هذه العناصر مجتمعة تمنح الفرد ثراءً وتفرّدًا، فإن الخطر يبدأ حين يختزل الإنسان ذاته في عنصر واحد يصبح "الانتماء الحاسم"، فتتقلص الهوية إلى سجن، وتتحول إلى أداة قتل. هذا ما يحاول أمين معلوف أن يكشفه بعمق في كتابه "الهويات القاتلة"، مستندًا إلى سيرة ذاتية مثقلة بالاغتراب اللبناني والفرنسي، وإلى رؤية تحليلية تبحث في أسباب العنف المرتبط بالهوية.

معلوف لم يكتب دراسة أكاديمية بقدر ما دوّن شهادة شخصية عن تمزقه الخاص. فهو ابن لبنان الذي عاش أهوال الحرب الأهلية، وابن فرنسا التي احتضنته ككاتب بالفرنسية. بين هذين العالمين تفتّح وعيه على سؤال جوهري: من أنا؟ هل أنا لبناني أولاً، أم فرنسي، أم عربي، أم مسيحي، أم كاتب بلغة ليست لغتي الأم؟ هذا السؤال، الذي يبدو فرديًا، يتحول في الكتاب إلى سؤال جماعي للبشرية كلها. فقد رأى معلوف في تجربة وطنه الممزق صورة مكثفة عن كيفية تحول الانتماءات إلى هويات قاتلة.

يرى الكاتب أن هوية الإنسان لا تُختصر، بل هي أشبه بالبصمة، فريدة لا تتكرر. لكن حين يُفرض على الفرد أن يُعرّف نفسه وفق عنصر واحد، فإن هذا العنصر يتضخم إلى حد الإلغاء، ويقوده إلى الاصطفاف في خندق ضد خندق. وهكذا تصبح الهوية أداة قتل لا لأنها شريرة بذاتها، بل لأنها وُظّفت في سياق صراع. هذه الفكرة، التي تبدو بديهية، تكشف عمق الأزمة الإنسانية في مجتمعاتنا المعاصرة: الخوف من الذوبان يدفع الجماعات إلى التمسك بانتماءاتها الضيقة، وحين تُهان هذه الانتماءات أو تُهدد، يتحول الدفاع عنها إلى عنف أعمى.

أما الدين، ذلك الركن الأكثر حساسية في تشكيل الهويات، فيتوقف عنده معلوف طويلاً. فهو لا يلقي اللوم على العقائد نفسها، بل على تأويلاتها. الأديان نصوص ثابتة، لكن قراءتها تخضع للسياقات التاريخية والاجتماعية. فالمسيحية، التي عرفت عصورًا من التعصب، مرت لاحقًا بمرحلة أكثر انفتاحا وتسامحا، وكذلك يمكن للإسلام أن يتنقل بين ضفاف التشدد والانفتاح بحسب الظروف. هنا يتضح أن العنف ليس وليد الدين بذاته، بل هو انعكاس لظروف سياسية واقتصادية وثقافية تُلبس النصوص ثوبها الخاص. لذلك فإن الدين ليس بريئا ولا مذنبا في ذاته، وإنما هو أداة تتشكل وفق يد من يستخدمها.

ومع بروز العولمة كقوة كاسحة، يزداد المأزق تعقيدا. العالم بات قرية كونية، لكن بدلاً من أن تذوب الخلافات، عادت "القبائل" لتتشكل من جديد، وكأن القرب يولّد الخوف. الأقليات تخشى الذوبان، والأكثريات تخاف فقدان امتيازاتها، والجميع يتمترس خلف هويته. وهنا يقدّم معلوف تمييزا مهما بين الإرث العمودي والإرث الأفقي. العمودي هو ما نرثه من تاريخ ودين وثقافة، أما الأفقي فهو ما نعيشه من تجارب مشتركة مع أبناء عصرنا. ولا يمكن لأي هوية أن تكون سليمة إذا أغفلت أحد البعدين؛ فالتمسك بالجذور وحدها يجعل الهوية سجنا، والاكتفاء بالحاضر دون الماضي يجعلها بلا جذور.

في هذا السياق، يمنح معلوف اللغة مكانة خاصة بوصفها أحد أبرز أوجه الهوية. فهو يكتب بالفرنسية لكنه يحمل العربية في ذاكرته ووجدانه، وهذا الازدواج اللغوي لم يكن عبئا بل مصدر غنى. ومع ذلك، يحذر من الاعتقاد بأن وحدة اللغة قادرة على منع الصراعات؛ فقد رأى كيف تقاتل أبناء البوسنة رغم اشتراكهم في اللغة نفسها، وكيف توحّد الدين شعوبا متعددة اللغات. اللغة، إذن، ليست ضمانة بقدر ما هي معبر محتمل. من هنا يقترح أن يتعلم الإنسان ثلاث لغات: لغته الأم التي تمنحه جذوره، ولغة عالمية كالإنجليزية تفتح له أبواب التواصل، ولغة ثالثة توسّع أفقه. اقتراح قد يبدو طوباويًا، لكنه في العمق يعكس إيمانه بأن الانفتاح اللغوي هو خطوة أولى نحو انفتاح إنساني.

ورغم ما في الكتاب من صدق وتحليل عميق، فإن القارئ لا يخرج منه بخطة واضحة للحل. فمعلوف يصف الجرح أكثر مما يصف الدواء، ويدعو إلى هوية إنسانية جامعة قد تبدو مثالية أمام واقع مليء بالصراعات القومية والدينية والعرقية. ربما يُحسب عليه أنه تأثر كثيرا بتجربته ككاتب مهاجر، ما جعله يركز على أزمة الاغتراب أكثر من إشكاليات مجتمعات مستقرة تعيش توترات من نوع آخر. لكن قوته تكمن في أنه لا يتحدث من برج عاجي، بل من قلب تجربة شخصية عاشها بمرارتها.

في النهاية، يترك الكاتب لنا صورة ذات بعد إنساني مؤثر: يتمنى أن يقرأ حفيده هذا الكتاب يومًا فيضحك، غير مصدق أن البشر اقتتلوا بسبب الهوية. حلم قد يبدو رومانسيا، لكنه يكشف عن رسالة عميقة: أن الهوية يجب أن تتحول من خنجر إلى جسر، من قيد إلى أفق، من أداة قتل إلى وسيلة تواصل. ربما لا يملك معلوف وصفة جاهزة لتغيير العالم، لكنه يملك الجرأة على طرح السؤال الذي نتجنب مواجهته: هل نحن قادرون على تعريف أنفسنا خارج ثنائيات الصراع؟ وهل يمكن أن نرى في الآخر امتدادًا لنا بدل أن نراه خصما لنا؟

في كتاب "الهويات القاتلة" نداء إنساني ضد الانغلاق. دعوة لأن نكف عن الاحتماء بانتماءاتنا كخنادق، وأن نحولها إلى مساحات لقاء. فإذا كانت الهويات قادرة على أن تقتل، فهي قادرة أيضا على أن تحيي، شرط أن نتعامل معها كأشجار تنمو أغصانها في اتجاهات مختلفة لكن جذورها واحدة. عندها فقط يمكن أن تتحقق أمنية أمين معلوف، ويصبح اقتتال البشر على هوياتهم ذكرى بعيدة في ذاكرة التاريخ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology