بقلم الكاتبة/ ميسون ندا
في عمق الحياة العامة، تلتقي السياسة بالثقافة في مساحة أوسع بكثير مما نتصور، لقاءٌ لا يشبه التحالفات العابرَة، بل أقرب إلى جذور تمتد في تربة واحدة، تغذّي وتوجّه وتشكّل ملامح وعي الأمم. فالسياسة بلا ثقافة تصبح أداة باردة، بلا روح ولا ذاكرة، بينما الثقافة التي تنفصل عن السياسة تتحوّل إلى حديثٍ للنخبة لا يجد طريقه إلى القرار ولا يغيّر مسار المجتمعات.
في تاريخ العرب، كانت الثقافة دائمًا مرآة للسياسة، وسلاحًا ناعمًا حين تعجز السيوف. فالمعلّقات لم تكن قصائد عشق فحسب، بل كانت شهادة ميلاد للهوية العربية، والفقه لم يكن علمًا دينيًا فقط، بل كان نظام حكم وتشريع، والفلسفة لم تكن ترفًا عقليًا، بل بحثًا عن معادلة الحكم الرشيد. إن كل حركة سياسية كبرى في تاريخنا وجدت جذورها أولًا في حركة ثقافية، من مجالس الحكمة في العصر العباسي إلى صالونات النهضة في مصر والشام، حيث كان الحرف يُمهد الطريق للسيف والقرار.
الثقافة الحيّة تصنع وعي المواطن قبل أن يصدر القوانين، توجّه انفعالات الشارع قبل أن تتشكل الحملات الانتخابية، تُعيد تعريف مفاهيم كالحرية والعدالة والمواطنة، بحيث تتحوّل من شعارات إلى قناعات، ومن قناعات إلى سلوك عام. ولعلّ أخطر ما قد يواجهه أي نظام سياسي أن يُدار مجتمعٌ بلا ثقافة حقيقية، لأن القرارات حينها تُبنى على فراغ، والإرادة الشعبية تتحرك بردود أفعال، لا ببصيرة واعية.
أما في التجربة المصرية، فإن العلاقة بين الثقافة والسياسة كانت دائمًا علاقة جدل وإلهام متبادل، من فكر رفاعة الطهطاوي الذي استنبت بذور الدولة الحديثة، إلى كتابات طه حسين والعقاد التي حرّكت الأسئلة الكبرى في وجدان الأمة، وصولًا إلى الصحافة الحرة التي جعلت الرأي العام شريكًا لا متفرّجًا. في جامعة القاهرة، التي كانت ولا تزال إحدى أعمدة هذا الوعي، تفتّحت عقول على الربط بين الاقتصاد والعلوم السياسية، وبين الفنون والقرار العام، حتى صار التفكير في الدولة لا ينفصل عن التفكير في المجتمع، والتخطيط للمستقبل لا ينفصل عن قراءة الماضي.
إن الثقافة العربية اليوم أمام تحدٍ أعظم من أي وقت مضى، فالعالم يتغير بوتيرة أسرع مما يسمح به التأمل، والسياسة أصبحت رهينة الإعلام العابر، والمصالح السريعة، والضغوط الدولية، لكن دور الثقافة يظل حاسمًا في إعادة الميزان، لأن المجتمعات التي تعرف نفسها، تفهم تاريخها، وتبني ذائقة فكرية راقية، لا يمكن أن تُقاد بسهولة إلى التبعية أو الفوضى.
حين تجتمع السياسة والثقافة في مشروع وطني صادق، تصبح القوة أداة حماية لا أداة قمع، وتصبح القرارات انعكاسًا لإرادة حرة ناضجة، لا لإملاءات طارئة. تلك العلاقة ليست ترفًا فكريًا، بل هي ضمانة لحياة عامة لا يحكمها الصوت الأعلى، بل العقل الأوسع، ولا تهيمن فيها المصالح المؤقتة، بل القيم العميقة التي تتوارثها الأمم الحيّة جيلاً بعد جيل.