بقلم: محمد ميموني
ليست القراءة في الأدب الحقيقي مجرّد متابعة للنصوص، بل هي عيشٌ داخلها، كما لو أنّ الكلمات تتحوّل إلى أنفاسنا الخاصة. وعندما أمسكتُ بمجموعة «قاب جرحين» للكاتبة آمال شتيوي، شعرتُ أنّي أمام نصوص لا تُقرأ بالعين وحدها، بل بالقلب والذاكرة والجرح الإنساني العميق.
دهشة البداية
لقد قلتُ في موضع سابق: «العنوان مفتاح النص، ومن لا يحسن فتح الأبواب لا يدخل إلى البيوت».
وعنوان «قاب جرحين» جاء مبهراً، مُحمّلاً بالقداسة والرمز، يُحيل إلى القرآن الكريم وفي الوقت نفسه يُضيف إليه لمسة إنسانية موجعة. هو عنوان يجمع بين السمو والوجع، فيُدخل القارئ منذ البداية في عالمٍ يجاور المطلق بالألم البشري.
اللغة: قصائد متخفية في ثوب نثر
إنّ ما شدّني أكثر في نصوص آمال شتيوي هو هذا التوهّج اللغوي. فهي لا تكتب جُملاً، بل تزرع وروداً من الصور البلاغية. تختزل العالم في ومضات، ومع ذلك تمنحه كل الامتلاء.
لقد قلتُ يوماً: «اللغة حين تتحوّل إلى موسيقى داخلية، تصير أعمق من المعنى نفسه».
وهذا ما وجدته في هذه المجموعة: لغة تنبض، إيقاع داخلي لا يسمعه إلا من قرأها ببطء وتأمل.
المضامين: أنثى تُنصت للعالم
القصص في «قاب جرحين» ليست مجرد حكايات عابرة، بل هي صرخات مكتومة لامرأة تُنصت للعالم وتعيد كتابته.
تكتب عن الألم الاجتماعي، عن القهر الصامت، عن الأمل المتسلل من بين الشقوق، لكنها لا تسقط أبداً في المباشرة. إنّها تكتب من الداخل، من قلب المرأة التي اختبرت الحياة، فتحوّل الجرح عندها إلى بصيرة، والخذلان إلى حكمة.
الأسلوب: الومضة التي تُضيء ما لا يُقال
إنّ القصة القصيرة جداً تحتاج إلى يدٍ ماهرة، تُشبه يدَ صائغٍ يصنع خاتماً من جوهرة صغيرة. وقد برهنت آمال شتيوي أنّها تعرف هذا الفن النادر. كل قصة في هذه المجموعة تشبه ومضة برق، تكفي لتضيء عالماً كاملاً ثم تختفي، تاركةً فينا أثر الدهشة.
قلتُ يوماً: «عظمة النص ليست في امتداده، بل في قدرته أن يتركك حائراً بعد آخر كلمة».
وهكذا هي نصوص هذه المجموعة، تنتهي لتبدأ داخل القارئ، وكأنها نصوص لا تنفد.
خاتمة: أدب يُقاوم النسيان
إنّ «قاب جرحين» ليست مجموعة عادية، بل هي شهادة على أن الأدب ما زال قادراً على أن يكون وطناً للروح، ومرآةً للوجع الإنساني. آمال شتيوي لم تكتب نصوصاً فحسب، بل زرعت ذاكرة جديدة في القارئ، وأثبتت أنّ الجرح حين يُكتب، يتحوّل إلى زهرةٍ لا تذبل.
وقد قلتُ: «الأدب العظيم هو الذي يجعلنا نبتسم ونحن ننزف».
وهذا ما فعلته هذه المجموعة بالضبط.