بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة
على أرضٍ كتبت فصول التاريخ الأولى، وتحت سماءٍ شهدت ميلاد الحضارة، تقف مصر اليوم لتقول للعالم:
“نحن لم نعد نحكي عن التاريخ... بل نصنعه من جديد.”
ومن قلب الجيزة، على بُعد خطوات من الأهرامات الخالدة، تشهد الإنسانية ميلاد تحفة معمارية وثقافية غير مسبوقة...
إنه المتحف المصري الكبير، الهدية التي تُقدّمها مصر للعالم بأسره، ليكون أعظم متحف أثري في التاريخ الحديث، وجسرًا يربط بين عظمة الماضي وآفاق المستقبل.
حلمٌ بدأ منذ عقود... حتى صار معجزة معمارية
لم يكن المتحف المصري الكبير مشروعًا عابرًا، بل حلمًا وطنيًا عالميًا بدأ التخطيط له في مطلع الألفية، حين قررت مصر أن تُنشئ متحفًا يليق بعراقة حضارتها التي أبهرت العالم لآلاف السنين.
في عام 2002 تم وضع حجر الأساس، لتبدأ بعدها ملحمة من العمل والإنجاز استمرت أكثر من عقدين، شارك فيها مهندسون وأثريون من مصر والعالم، ليُولد في النهاية صرح فني وحضاري فريد بمساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، عند الحد الفاصل بين المدينة الحديثة ورمال التاريخ.
الموقع... بين الأهرامات والخلود
اختير موقع المتحف بعناية مذهلة، ليطل على أهرامات الجيزة — أعجوبة العالم القديمة التي لا تزال شامخة تتحدى الزمن.
هنا، تتعانق عبقرية المصري القديم مع إبداع المصري الحديث، في مشهد يخلد روح مصر التي لا تموت.
وكل من يقف أمام الواجهة الحجرية الضخمة للمتحف، سيشعر أنه أمام بوابةٍ إلى التاريخ، لا إلى مبنى.
تصميم معماري يخاطب الحواس والعقل
صُمّم المتحف المصري الكبير على يد المعماري الإيرلندي “هينغن ماك مورفي”، الذي أراد أن يجعل منه تجربة حسّية وعقلية في آنٍ واحد.
الواجهة المهيبة المصنوعة من الحجر الجيري المستوحى من المعابد المصرية القديمة، تمتد بزوايا هندسية تتجه نحو الأهرامات، بينما يغمر الضوء الطبيعي البهو الرئيسي الذي يستقبل الزوار بتمثال رمسيس الثاني في مشهدٍ يجسّد العظمة بكل تفاصيلها.
أما التصميم الداخلي، فيحاكي رحلة الزمان؛ حيث تبدأ الجولة من أقدم فترات التاريخ المصري، وتنتهي عند ذروة مجده في العصور الفرعونية المتأخرة، لتجعل الزائر يعيش رحلة عبر آلاف السنين في لحظات.
أكبر متحف في العالم لحضارة واحدة
يُعدّ المتحف المصري الكبير أضخم متحف أثري في العالم مكرّس لحضارة واحدة، إذ يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل كل مراحل التاريخ المصري القديم.
ومن أبرز كنوزه، المجموعة الكاملة للملك الشاب توت عنخ آمون، التي تُعرض لأول مرة كاملة في مكان واحد، مكونة من أكثر من 5400 قطعة بين عرشٍ ذهبي، وتوابيت مذهبة، وتماثيل، ومجوهرات لا تُقدّر بثمن.
التكنولوجيا في حضرة التاريخ
يمزج المتحف بين العراقة والتقنية الحديثة في عرض المقتنيات، حيث تُستخدم أحدث أساليب العرض المتحفي والوسائط التفاعلية والواقع الافتراضي، ليعيش الزائر تجربة غامرة تحاكي حياة المصري القديم.
يستطيع الزائر أن يرى كيف بُنيت الأهرامات، وكيف عاش الفراعنة، وكيف صُنعت التحف والأواني المقدسة، في رحلةٍ تعليميةٍ وسياحيةٍ متكاملة تمزج بين الدهشة والمعرفة.
قلب نابض بالعلم والحياة
لا يقتصر المتحف على عرض الآثار فقط، بل هو مركز بحثي وثقافي عالمي يضم أكبر معامل الترميم في الشرق الأوسط، ومكتبة أثرية متخصصة، وقاعات محاضرات، ومراكز تعليمية للأطفال والشباب من مختلف الدول.
إنه ليس مجرد متحف... بل مدينة للثقافة والبحث العلمي، تنبض بروح التعاون الدولي في حماية التراث الإنساني.
منارة سياحية عالمية
مع افتتاحه في السبت 1 نوفمبر 2025، يتوقع الخبراء أن يصبح المتحف المصري الكبير وجهة سياحية عالمية تجذب ملايين الزوار سنويًا من شتى أنحاء العالم.
فهو لا يقدم فقط رحلة في عمق التاريخ، بل يقدم تجربة عصرية متكاملة؛ من المناطق الخضراء والمطاعم والفنادق، إلى الإطلالة المدهشة على الأهرامات، في مشهدٍ يندر أن يتكرر في أي مكان آخر على الأرض.
---
هدية مصر للعالم... من قلب الحضارة إلى المستقبل
يُجسّد المتحف المصري الكبير فلسفة مصر الأبدية:
أن الحضارة لا تموت، وأن الجمال لا يُقاس بالعمر، وأن التاريخ ليس ماضٍ يُروى بل تراثٌ يُحيا ويُقدّم للأجيال القادمة.
بهذه الهدية، تقول مصر للعالم:
> “ها نحن نقدّم لكم أعظم صفحات تاريخنا... لتعرفوا أننا ما زلنا نصنع المجد كما صنعناه منذ آلاف السنين.”
وأخيراً المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح أثري، بل رسالة سلامٍ وتنويرٍ للعالم.
هو شهادة على عبقرية الإنسان المصري الذي استطاع أن يحول الصخر إلى فن، والزمان إلى ذاكرة، والتاريخ إلى حياة.
إنه ببساطة، أعظم قصة حب بين الإنسان والحضارة، ترويها مصر للعالم... من قلبها، ومن روحها، ومن حضارتها التي لا تنطفئ.













