الشاعر محمد البريكي في ديوانه الجديد "رغيف ساخن للبحر" يؤسس رؤيته الكونية والإنسانية معا



عمان - عمر أبو الهيجاء

يواصل الشاعر محمد عبد الله البريكي اشتغاله على تجربته الشعرية بدأب وجهد عميقين، رافدا المكتبة العربية بمجموعة متميزة من الإصدارات الشعرية وكتب أخرى في النقد والشعر النبطي والشعبي، إصدارات أغنت المكتبة العربية وكانت مرجعا للدراسين والباحثين وحظيت برسائل الماجستير والدكتوراه لطلية الجامعات العربية.

ضمن هذا السياق صدر للشاعر البريكي ديوان شعري جديد أسماه "رغيف ساخن للبحر"، عن دار موزاييك للدراسات والنشر، عمل يختزن حرارة التجربة ودفء الرؤية، حيث يتعانق الخبز رمز الحياة بالبحر رمز الاتساع والسرّ، ونلمس في نصوصه انصهار الذات بالكون، وانفتاح اللغة على أفق حداثي يتغذى من التراث، إنه ديوان يسكب الوجع الإنساني في صور متألقة، ويحوّل القلق إلى جمال، ليمنح القارئ رغيفًا شعريًا ساخنًا بالدهشة والمعنى.

يأتي ديوان "رغيف ساخن للبحر" للشاعر محمد عبد الله البريكي كعلامة فارقة في المشهد الشعري العربي المعاصر، ويحمل عنوانه مفارقة رمزية عميقة بين (الخبز) هو رمز للقوت اليومي والدفء الإنساني، و(البحر) بما يحمله من امتداد ولا نهائية وسر وقلق، ومن هذه الجدلية ينطلق النص الشعري ليؤسس رؤيته الكونية والإنسانية معًا.

في هذا الديوان تتشابك ثنائية الحياة والوجود مع هواجس الذات والجماعة، فيتجاوز البريكي حدود البوح الفردي إلى فضاء أوسع يتأمل المصير الإنساني ويعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم، أما لغته جاءت متوقدة، مشبعة بالصور والاستعارات، كما تستحضر الموروث العربي في عمقه وتُحاوره وتُجدده في أفق حداثي يفتح النص على احتمالات شتى.

قصائد هذا الديوان تنبض بـالقلق والدهشة والتمرد، وتحتضن الوجع الإنساني وتحوّله إلى جمال، وتلتقط تفاصيل اليومي لتسكبها في مجازات كونية، فالقصيدة تتسع حدود الذات لتغدو صوتًا للوطن، وصدى للروح، وصرخة في وجه المحن.

إن "رغيف ساخن للبحر" ليس مجرد مجموعة شعرية، بل هو رحلة لغوية ورؤيوية، تنقل القارئ من الحسي إلى المجرد، ومن الواقع إلى الحلم، وتدعوه للتأمل في أسئلة الوجود والهوية، في زمن تتسارع فيه التحولات وتضيق فيه فسحة الشعر.

بهذا المعنى يقدّم الديوان تجربة شعرية مغايرة ومؤثرة، تكشف عن شاعر يمتلك أدواته، ويعرف كيف يحوّل الكلمة إلى طاقة، والقصيدة إلى كيان حيّ يسكن القارئ ويضيء له دروب التأمل والمعنى.


من أجواء هذا العمل الشعري اللافت والمميز ومن قصيدة "ينسل من قلق اللغات" نطالع:

"ما جاءَ بالخَرَزِ الأنيقِ وفرَّقَهْ

إلا ليجتذبَ الشعورَ ويسرِقَهْ 

جمعَ اللغاتِ على سطورِ خيالِهِ 

فمشَت إليهِ حروفُها متأنِّقَةْ 

جلسَ الفرزدقُ عندَ أوَّلِ شارعٍ 

في دربِهِ فرمى القصيدَ ومزَّقهْ 

وأتاهُ كعبُ ببردةِ المعنى فما

"بانَت سعادُ" بشعرِهِ مُتَحَذْلِقَةْ

جَمَعَ الحواريينَ فوقَ بساطِهِ 

فمشى البساطُ على السحابِ وأرّقَهْ

وتنزّلَتْ بنتُ السحابِ بدمعةٍ 

تبكي على دمعِ المحبِّ لتعشَقَهْ 

هو لم يشأْ جَمْعَ الدخانِ بكفِّهِ

 فبكى الدخانُ على خدودِ المحرقةْ 

هو لم يَخُنْ عسلَ الكلامِ لأنّهُ

أهدى إلى عسلِ الكلامِ الملعقةْ

هو لم يَتُبْ عن عطرهِ فرماهُ للـ

أغصانِ تسرقُ للشوارعِ منطقَهْ

ورمى إلى المسمار مطرقةً لكي

يقسو على المسمار كفُّ المطرقةْ

هو من أتاهُ النخلُ.. هزَّ عطاءَهُ 

وأتى إليهِ الياسمينُ فدمْشَقَهْ 

تُهدي النساءُ إليهِ رنَّةَ كعبها 

فيعيدُهُ حَجَلاً يُضيءُ بزقزقَةْ 

فصدى الأنوثةِ لا يغيبُ سطوعُهُ 

وبدونِ أنثى الشعرُ يفقدُ رونَقَهْ

وبدونِ شاعرِها القصيدةُ قد تجيءُ 

طليقةً في الهمِّ أو تأتي إليهِ مُطَلّقَةْ

ينسلُّ من قلقٍ إلى قلقٍ إلى

قلقٍ يُرَبّي الطيرَ حتى يُطْلِقَهْ 

وينامُ بين العاشقينَ لأنَّهُ

ألغى بدهشتِهِ حدودَ المنطِقَةْ

هذا الذي قد جاءَ في فمِهِ بكَتْ

لغةٌ ولكنَّ العبارةَ ضيِّقَةْ

ولكيْ تُصَدِّرَهُ العصورُ.. كغيرِهِ

جَعَلَ الحقيقةَ في الحروفِ مُعَلَّقَةْ

ولكي يغيظَ الحاسدينَ تبسَّمَت 

قسماتُهُ والروحُ فيهِ مُمَزَّقَةْ 

ولكي يُرى مُتَشَبِّثًا بوجودِهِ

أخفى عن الحُسّادِ حَبْلَ المشنَقَةْ

ومشى على الأحلامِ يدفَعُ قاربًا

للموجِ لا يدري.. أيَحْفَظُ زَوْرَقَهْ؟

سكَبَ الجنونَ بكأسِهِ فكأنَّهُ

جعلَ الحروفَ بكأسِهِ مُتَعَتِّقَةْ 

فخذوا من الخَرَزِ الأنيقِ فإنَّهُ 

لن يتركَ الإحساسَ حتى يَسْرِقَه".



إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology