بقلم: روعة محسن الدندن
حين أفتح باب القصيدة، لا أدخل عالماً من الكلمات فقط، بل عتبةً إلى طقسٍ مقدس، حيث تصعد أرواح العشاق وتتوحد في هدوء واحتراق.
تلك اللحظة التي يُخطف فيها القلب، وتصبح كل نفسٍ فيها مهرجانًا للغموض والاشتياق، كأنني أرتدي عباءة الحبيب وأشدّها حول وجعي.
حين يُقال "يُحكى بأن حبيبتي"، لا تُروى قصة امرأة فحسب، بل تبدأ مراسيم زفاف الروح مع نورٍ يتسلل من ثنايا الحرف، نورٌ يجعل من البُعد حضورًا، ومن الغياب سؤالًا لا ينتهي.
هنا، بين السطور، يصير الشعر سرًّا مقدسًا، لا يُقرأ، بل يُرتجف له ويُعاش كما يُعاش الحب الحقيقي: بالاحتراق والرهبة.
يُحكى بأن حبيبتي
كانت قمرًا
سكن السماءَ لبعض أعوامٍ وعادْ
أيُّ حبيبةٍ هذه التي لا تُقيم على الأرض؟ بل تتخذ من السماء بيتًا، وتغيب؟
هو لا يتحدث عن امرأة من لحم ودم…بل عن حضورٍ يُرى ولا يُلمس، عن ضوءٍ يسكنه، ثم يرحل. فالقمر لا يبقى… هو وعدٌ مؤقت بالنور، لا أكثر. وأي عشقٍ ذاك الذي لا يتجذر؟
بل يضيءك من بعيد، ثم يختفي في وجه آخر من الليل؟
"سكن السماءَ"
فهل اقترب منها ليحترق؟ أم أنه ظلّ في العتمة، يتعلّم كيف يحبّ الضوء الذي لا يملكه؟ وإن عاد القمر، هل يعود كما كان؟
أم أن الضوء حين يغيب… لا يعود بنفس النقاء؟
ثم يقول:
يُحكى بأن حبيبتي
كانت نسيماً رائعًا،
شمسًا وتسطعُ كلّ يومٍ في البلادْ
نسيماً… وشمساً؟ أليست الأولى تهبّ خفيفةً… والثانية تحرق؟
كأنه يريد أن يقول إن حضورها مزدوج: راحةٌ وعقاب، نعيمٌ ونار.
هي ليست دفء الحب فقط… بل اختباره، امتحانه، شدة السطوع الذي قد يلهب قلبه بدل أن يدفئه.
لكن الأهم ليس في الشمس…بل في عبارته
"كل يومٍ في البلادْ"
كأنها لا تشرق عليه وحده. إنه يعترف بأن معجزته ليست له فقط،
بل يشترك فيها الجميع.
وهذا الاعتراف ليس سهلاً… أن تحب امرأة، ويشعّ ضوؤها على غيرك أيضًا، أن تراها جميلة في عيون الناس كما هي في عينيك.
فهل يحبها أكثر؟ أم يغار منها أكثر؟
ويمضي…
"يُحكى بأن عُيونَها
عينانِ تَسكنُ فيهما
(إرمُ) التي ذاتُ العِمادْ"
إرم… المدينة المفقودة. ذاك الحُلم الممنوع، والمكان الذي لا يُعرف له باب. فهل عيناها هما التيه؟
هو لا يرى فيهما فقط جمالًا… بل ضياعًا فخمًا، دهشةً تأخذ العقل، ومدينةً لا يدخلها أحد. إنه يقول: عيناها ليستا للفرجة… بل للتيه.
وأي شاعرٍ هذا، يربط امرأة بمدينةٍ لم تُكتشف؟
كأنها سرٌّ لم يُفك، لغزٌ لا يمنحه له قلبه ولا خياله.
ويقول بعدها:
"مجهولةُ العنوانِ دومًا إنما
هي كلُّ نَهرٍ كلُّ أرضٍ أو سَماءٍ
كلُّ وادْ"
أي امرأةٍ هذه التي تكون كلّ شيء، لكن لا يُعرف أين تكون؟
هو هنا لا يمدحها… بل يضيع فيها.
يبحث عنها في كل مكان، ولا يجد لها عنوانًا. هي الكل… واللاشيء.
هي الخريطة… والجهة المفقودة.
تبدو كالقصيدة المستحيلة:
تشرب منها المعاني، لكنها لا تُكتب كاملة أبدًا.
هي كل فكرة، وكل شعور، لكنها لا تُلَخّص. فكيف يمسك بها؟
كيف يُحبّ من لا تستقرّ، من لا تُقيم في مكان؟
كما يتأمل المتصوّفُ أسرار الوجود: غامضة، شاسعة، لا تُمتلك، لكنها تملأ القلب خشوعًا.
هذه الأبيات ليست وصفًا، بل اغتراب. ليست مديحًا لامرأة… بل وجع شاعرٍ يعجز عن الوصول، إلا من خلال القصيدة.
وهكذا... تصبح الكتابة وطنًا للمحب، حين تكون الحبيبة وطنًا بلا عنوان.
هذه القصيدة ليست مجرد كلمات، بل طقسٌ عاشقٌ بين الحاضر والمفقود، بين الجسد والظل، بين النور الذي غادر والقمر الذي ما زال يسكن القلب.
هي وطنٌ بلا عنوان، تعيش فيه الروح بلا ثياب، تتوه بين أصداء الحب المفقود والحنين المتوهج.
وفيها، يصبح الحُبّ قدرًا لا يُكتب، بل يُحكى بصمت الدموع، ويُحفظ في ضوء غريب لا يُرى، لكنه يضيء كل المجهول في داخلنا.
وكأننا، بعد أن نطوينا بين دفتيها، نصير نحن همس القصيدة، ورجفة الحبيب، والدمعة التي لم تُسكب بعد.
وهكذا، تظل القصيدة عرس الروح المستمر، حيث نبدأ المراسيم، ولا تنتهي أبداً.
---
روعة محسن الدندن
تموز 2025