في حضرة الشك.. يموت الحب واقفًا

 



مهندسة شهد القاضي



ما أعمق هذا الباب، وما أرهف هذا الخيط الذي يفصل بين الحب والشكّ! الحبّ حين يكون صادقًا، يجيءُ كنسمةٍ تُلامس أرواحنا فتُعيد ترتيب الفوضى في الداخل، يزرع الطمأنينة في أرض القلب، ويمنحنا يقينًا بأنّنا لسنا وحدنا في هذا الوجود، أنّ هناك من يرانا بعينٍ لا تُخطئ تفاصيلنا، ولا تُسجّل علينا هفوة الشعور.. لكن ما إن يدخل الشكُّ من ثقبٍ صغيرٍ، حتى يتبدّد النور، ويتحوّل الودّ إلى سؤالٍ، والعناق إلى حذرٍ، والصمت إلى تحقيقٍ طويلٍ في نوايا الآخر.


الحبّ والشكّ لا يجتمعان أبدًا، لأنّ الحبّ يولد في ضوء الثقة، والشكّ لا يعيش إلا في ظلال الخوف.. الحبّ يفتح لك الباب على مصراعيه، أما الشكّ فيغلق النوافذ كلّها ويتركك تختنق في العتمة.. الحبّ يقول: "أنا معك مهما حدث"، والشكّ يهمس بخبث: "ربما لا تكون كما تقول".

ومن تلك الـ"ربما" الصغيرة، يبدأ الخراب الكبير.


في الصداقة مثلًا، حين يدخل الشكّ بين صديقين، يفقد الكلام نكهته، وتتحول الضحكات إلى تمثيلٍ لا طعم له.. تبدأ بتفحّص التفاصيل: لماذا تأخّر في الرد؟ لماذا تغيّر صوته؟ لماذا لم يذكرني؟ وتنسى أن الصديق ليس موظفًا في عاطفتك، ولا محامي دفاع عن مشاعره.. الصداقة الحقيقية هي أن ترتاح لوجوده، لا أن تُحاسبه على أنفاسه.


وفي الحبّ العاطفي، الشكّ هو خيانة مؤجَّلة.. ليس لأنّك خنت، بل لأنّك زرعت في الحبيب شعورًا بأنه تحت المراقبة، وأنّ قلبه مهما كان طاهرًا لن يُقبل إلا ومعه شهادة "براءة من التهمة".. الحبّ لا يحتاج إلى تحقيقٍ، يحتاج إلى احتضان.. فمن أحبّك حقًا، لن يُخفي نفسه، ومن لم يُحبّك، لن تُجديه كلّ محاولاتك في اكتشاف نواياه.. الشكّ يُطفئ الجمال، يجرّد العلاقة من دفئها، ويحوّلها إلى معركة إثباتٍ لا تنتهي.


وفي الأخوّة أيضًا، الشكّ كالسوس، ينخر ببطءٍ في عمود البيت.. تبدأ حين تظنّ أنّ أخاك يُحبّ نفسه أكثر، أو ينسى حقّك، أو يُخفي عنك أمرًا.. لكن الأخوّة الحقيقية لا تقوم على المقارنة، بل على المشاركة، على الإيمان بأنّ الدمّ الذي يجري فيكما واحد، حتى لو تفرّقت الاتجاهات.. وأنّ المسافة التي يخلقها الشكّ بينكما، لا تردمها ألف عاطفةٍ مصطنعة.


الحبّ — بكلّ صوره — لا يحتاج إلى يقينٍ منطقي، بل إلى يقينٍ روحي.. أن تؤمن أنّ من تحبّه لا يريد لك الأذى، حتى إن أخطأ، وأنّ النقاء لا يُقاس بالأفعال وحدها، بل بالنيّة التي تختبئ خلفها.. أن تفهم أنّ الحبيب بشر، والصديق بشر، والأخ بشر، والخطأ لا يعني الخيانة دائمًا، وأنّ الشكّ إذا صار عادةً، قتل ما تبقّى من إنسانيتك.


أتعرف؟

الشكّ ليس عدوّ الحبّ فحسب، بل نقيضه التامّ، لأنّ الحبّ يبني، والشكّ يهدم.. الحبّ يُوسّع صدرك للعذر، والشكّ يُضيّق عليك أنفاسك.. الحبّ يُعطي، والشكّ يُطالب.. الحبّ يزرع وردًا في دروب العلاقة، والشكّ يزرع أسلاكًا شائكة حول القلب.. ومن يسير على الأشواك، لا يصل إلى الحديقة.


إنّ من يُحبّ بحقّ، لا يُسرف في الظنون، لأنّه يعلم أنّ القلب الذي يُتعبه التفتيش لا يعرف طمأنينة.. ومن يشكّ بمن أحبّ، لن يرى منه إلا الوجع، لأنّ الشكّ يُغيّر ملامح الأشياء، يُشوّه الجميل، ويُقبح الطاهر.. فلا تسأل: "لماذا خفت؟" بل اسأل نفسك: "متى فقدت الإيمان به؟"

لأنّ الحبّ إذا لم يُبنَ على الثقة، فلن ينهض مهما زيّنت جدرانه.


تذكّر دائمًا:

من أحبّك سيُثبت لك حبّه بالفعل، لا بالكلمات.. ومن شككت فيه، لن يقدر أن يُقنعك مهما فعل، لأنّك أنت من أقفلت قلبك دون أن تشعر.. لذلك، لا تجعل الشكّ يقودك إلى خسارة من كان صادقًا، ولا تُعطِه فرصة ليهدم ما تعبت في بنائه.


فالحبّ الحقّ، يا صديقي، لا يعرف التجسس ولا الامتحان ولا الأسئلة المبطّنة.. الحبّ لا يسكن قلبًا مرتابًا، ولا يُقيم في أرضٍ تهتزّ بالظنون.. الحبّ الطاهر يحتاج إلى أرضٍ صلبةٍ من الثقة، وإلى سماءٍ مفتوحةٍ من النية الطيبة،

حينها فقط يزهر… ولا يُخيفه ريحُ الشكّ ولا غيمةُ الخوف.


فاحذر أن تُدخِل الشكّ بيتَ حبّك، فهو لا يطرق الباب، بل يقتحم.. وحين يدخل، لا يخرج إلا وقد أخذ معه كلّ دفءٍ، وكلّ طمأنينة، وكلّ صدقٍ كان يسكن بينكما.


الحبّ والشكّ لا يجتمعان، كالماء والنار.. كالنور والظلمة.. كالحياة والموت.. واختر أنت أيّهما تريد أن تسكنه قلبك… حبًّا يُنيرك، أم شكًّا يُنهيك.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology