حين نعود إلى البدايات: فناجين أمي الكبيرة

 



بقلم: سجى سليمان بني عطا


يقولون إننا جميعًا نحلم بالعودة إلى البدايات. إلى تلك اللحظات الأولى التي كانت الحياة فيها أبسط، والمشاعر أنقى، والأحلام أقرب إلى القلب منها إلى الواقع. البعض يعود إلى طفولته، إلى شارع قديم أو ضحكة بعيدة. أما أنا، فقد تمنّيت العودة إلى فناجين أمي الكبيرة.


كانت فناجين أمي أكثر من أدوات قهوة. كانت وطنًا صغيرًا يحتوينا كل صباح، تلمّ شتاتنا بصوت الملاعق ورائحتها... في كل فنجان كانت تضع شيئًا من الطمأنينة، وشيئًا من الصبر، وربما الكثير من الحبّ الذي لم نكن نعرف كيف نرده.


حين كبرت، أدركت أن تلك الفناجين كانت تحفظني من التشتّت. وأن ما سكبتْه أمي فيها لم يكن قهوة فقط، بل بداية كل حكاية صالحة للعيش.

ولذلك، حين كتبت «فناجين أمي الكبيرة»، لم أكتب عن الذكريات بقدر ما كتبت عن الحنين كطريق للعودة إلى الذات. عن كيف يمكن لفنجان قهوة أن يكون بوابةً نحو القلب الأول، نحو الإحساس الأول بالأمان.


ربما كل واحدٍ منّا يملك طريقًا مختلفًا إلى بداياته. طريقٌ يمرّ عبر صوتٍ، أو رائحةٍ، أو حكايةٍ لم تكتمل. أما طريقي فكان من خلال رائحة القهوه وصوت أمي وهي تقول: “اشربي يا سجى ، سيبردُ قلبك قبل القهوة.”


لقد علّمتني أمي أن الدفء لا يُشترى، بل يُسكب.

وأن العودة إلى البدايات لا تكون بالزمن، بل بالكتابة جميلة انتي يا أمي ...

ربما لا نملك أن نعود إلى البدايات كما كانت،

لكننا نستطيع أن نلمسها من جديد حين نكتبها، حين نعيد تشكيلها في ذاكرتنا كما نريد لها أن تبقى.

كل عودة إلى الأم، إلى القهوة، إلى تلك اللحظات الصغيرة التي كانت تجمعنا حولها هي عودة إلى ما يجعلنا بشرًا: هشّين، لكن قادرين على الحبّ من جديد.


إن «فناجين أمي الكبيرة» ليست فقط حنينًا إلى الأم، بل إلى أنفسنا الأولى، قبل أن يغيّرنا الزمن ويُربكنا البعد.

ففي كل فنجان يُسكب، حكاية تُروى، ودفءٌ يهمس:

أن العودة ممكنة، طالما ما زالت فينا ذاكرة تشتهي الرائحة الأولى.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology