قلبي… عراق

 



الشاعر سعيد إبراهيم زعلوك

أنا وبغدادُ—

منذُ سكنتُ أوّلَ لَيلةٍ في جسدِ الدنيا—

حبيبان،

أنا والعراقُ… نَسغُ أغنيةٍ

تجري،

وتعيدُ للأنهارِ ما ضيّعتْهُ

ليلًا

من تعبٍ وأرقٍ.


يا بغداد…

كم دلّلتِ طفولةَ قلبي،

وكم حملتِ منّي

خشوعَ مَن يدخلُ بابًا من نورٍ

لا يعرفُ لِمَ ارتجف

حين رأى ظلَّهُ

يتحوّلُ إلى نخلةٍ

تتوضّأُ بالعاصفة.


كم ركضتُ في قصورِ بني العبّاس،

والليلُ يفتحُ لي أبوابًا من نارِ الحكمة،

والسيفُ ينقشُ على الهواء

درسًا أولَ

في معنى البقاء.


كم سبحتُ في دجلة،

فعلّمني كيف يتسع الصدرُ

لجراحٍ

لا تُشفى،

وكيف يعود الماءُ

إذا ضلّ طريقه

إلى اسمِه الأوّل.


وكم شربتُ من الفرات،

فذُبتُ فيه كأنّي

آخرُ قطرةٍ

تبحث عن فم الغيم

لتولد من جديد.


مرّتْ بي كلُّ الأزمنةِ،

كأنّي بوّابةٌ فُتِحَتْ للعابرين،

أرى بغدادَ في ربيعها،

وفي انكسارها،

وفي ضوئها الحزين

الذي يحاول أن يعيش،

ولو على رماد نافذةٍ

أُغلقت

قبل أن تُطفئ حلمًا صغيرًا

نام خلف الزجاج.


رأيتُها

تضعُ على كتفيها

صوتَ الفقير،

وتحملُ بيدها

حلمَ العائدين،

وتُربّي في ليلها

ضحكةَ طفلٍ

لا يعرف أن الحروب

سرقت من جيبه

أجنحةً كانت تكفيه

ليلمس القمر.


أحفظُ الجهاد،

أحفظُ أسماءَ الذين وقفوا

مثل وترٍ مشدودٍ

في صدرِ الدنيا،

لا ينقطع،

ولا يلين،

وأحفظُ النساءَ

اللواتي خبّأن مفاتيحَ الغد

في أكمامٍ من صبرٍ

وشموعٍ

لا تطفئها الرياح.


وحبّي لها—

يا صاحبي—

أقوى من موتٍ

يمشي بين الأزقّة،

أقوى من وقتٍ

يحاول أن يسرق

روحَ الذاكرة.


حبّي لها

قمحٌ ينهض في ريحٍ عاتية،

ونهرٌ يعود مهما تكسّر،

وجرحٌ يشع

كأنّه شرفةٌ

تطل على حياةٍ أخرى

لم تولد بعد.


ورغم كل ذلك…

لستُ من العراق،

لكن قلبي—منذ عرف أوّل نبضٍ—

كان يسمع همس دجلة،

ويحمل ظلّ نخلةٍ

لم ألمسها يومًا

إلّا في الحلم.


لستُ من العراق،

لكن أصابعي تتوضأ

كلما كتبت اسمها،

كأنّ الحروف

محراب عشقٍ

لا يُفتح

إلّا لمن أغواه الضوء

فأحبَّ

من قبل أن يعرف كيف يحبّ.


وجهي…

حين يميل للحزن،

يكتسب ملامح بغداد،

وتصير دموعي

مطرًا

واقفًا عند أبواب الكرخ،

يسأل:

هل لي مكان

في هذا الليل؟


أنا لستُ من العراق،

لكن قلبي—

يا من تسأل—

كلّه عراق،

وما الانتماء

إلّا أن تولد

من أرضٍ

لا تعرف جسدك،

لكنها تعرف روحك

من أوّل نظرة.


يا ربَّ بغداد،

يا ربَّ نخيل العراق

إذا ركض في الريح

فصار نشيدًا،

ويا ربَّ ماءٍ

لم يخن يومًا

قلب عاشق.


احفظ لها وجه الفجر،

واكتب على أبوابها نورًا

يمشي على خطى الأمهات،

واحمل عنها

ثقل المدن القديمة

التي تعبت

من حفظ أسماء موتاها.


يا رب…

إن كان للعشق بيت

ففي بغداد،

وإن كان للوفاء وطن

فعلى تراب العراق.


واجعل في الغيب

سلامًا طويلًا لها،

ونصرًا قادمًا

لا يشبه إلّا الفجر،

ولتشهد الأرض…


أن قلبي عراق،

وكل حب يولد من بغداد.



إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology