وفاء داري باحثة وكاتبة | فلسطينية
صدرت رواية "سلالة من طين" للكاتبة قمر عبد الرحمن، إصدار 2025، وجاءت في نحو 180 صفحة تحمل ملامح حكاية فلسطينية كثيفة تتشابك فيها الفجيعة مع أقدار الحب والحياة. ومنذ الصفحات الأولى، عبر كلمةٍ تمهيدية للأديب محمود شقير، تنفتح الرواية على نافذة تعريفية واسعة تُضيء معالم سردية الرواية قبل الدخول في دهاليزها؛ وهي مقدّمة كُتبت بأسلوب شقير الأدبي الرشيق، وإن منحت القارئ جرعة مبكرة من التوضيح قد تُضعف قليلاً متعة الاكتشاف الأولى لمن يفضّل أن تتولّد الدهشة داخل النص نفسه. ومع ذلك، ورغم هذا الإفصاح المبكّر، فإن مواصلة القراءة سرعان ما تبدّد ذلك التردّد الأولي؛ فالرواية تحمل من العمق الإنساني والتوتر الدرامي ما يجعل الانغماس في تفاصيلها ضرورة جمالية، لا مجرد متابعة سردية.
إنها رواية تستحق القراءة حقاً، وتنجح في أن تُعيد تشكيل العلاقة بين القارئ والنص عبر سرد يمزج بين الحميمي والوطني، وبين البكاء الداخلي وصوت الحياة الذي لا يخفت. العنوان: "سلالة من طين" يوحي بهوية تتشكّل من المادة الأولى: الطين، رمز الخلق والخصب والصمود، لكنه أيضاً رمز التشوه والجرح والعودة الدائمة إلى نقطة البدء. إضافة العنوان الفرعي "غزة الباكية" يحمّل الرواية منذ البداية منظوراً وجودياً مأزوماً؛ مدينة تصنع أبناءها من الطين ذاته الذي تُدفن فيه أحلامهم.
أما الغلاف بلونيه الأصفر المتوهّج في الأعلى والأزرق المعتم في الأسفل، فهو يخلق ثنائية (الضوء والظلام)، (الأمل،القهر)، ويضع شخصية تقف عند تخوم البحر وهو رمز مركزي داخل الرواية تحدّق في المدى، في استعادة بصرية لأسئلة الحرية والنجاة. ملخص الرواية تتابع الرواية حياة عائلة فلسطينية تعبر أزمتها الشخصية من خلال مآسي غزة الكبرى. نعيش انتحار مريم بعد ظلم الأب والزوج، ثم موت الأب كمداً عليها، واعتقال الابن نضال في سجون الاحتلال وما يعيشه من نضج داخلي عبر التعليم والقراءة ومشاهد السجن القاسية، في المقابل يخوض الابن الأصغر آدم رحلة حبّ مع (هبة) في محاولة لمقاومة انهيار العالم حوله، لكن الحرب تقطع خيط الفرح، فتستشهد (هبة) تحت القصف قبل أن تصلها رسالته الأخيرة، في مشهد إنساني جارح يُعدّ ذروة الرواية المأساوية. تظل غزة حاضرة لا كخلفية سردية بل ككائن حيّ: البحر، الأنقاض، الليل الطويل، وجوه الناس التي تصارع للبقاء. كل ذلك يمنح الرواية طابعاً وجودياً يرصد هشاشة الفرد المحاصر بين الحرب والموت والحب.
الأسلوب الأدبي واللغوي: تميل الرواية في بنيتها العامة إلى السرد الخطي، غير أنها تعتمد على الاسترجاع في لحظات مفصلية تعيد تشكيل وعي الشخصيات: ذكريات الأب، صور مريم، سجلات السجن، وذاكرة البحر التي تعمل كمرآة للماضي والحاضر معاً. ويأتي صوت الراوي بضمير الغائب في أغلب الفصول، لكنه يتقاطع مع مونولوجات داخلية عميقة تمنح الشخصيات طبقة وجدانية إضافية وتكشف ارتجاجاتها الداخلية في لحظات الألم والفقد. لغوياً، تعتمد الكاتبة على عربية حديثة تمزج بين الفصحى المشغولة والعبارات المحكية الفلسطينية، وهو خيار يضيف صدقاً حسياً للجو المكاني والاجتماعي. لكن هذا المزج يظهر أحياناً داخل الحوارات بطريقة قد تُحدث ارتباكاً لدى بعض القراء إذ تتقاطع العامية والفصحى مع المونولوجات في الجملة الواحدة أو المقطع الواحد ما قد يُضعف الوضوح الإيقاعي للحوار. وربما كان من الأنسب توحيد مستوى اللغة داخل المشاهد الحوارية، أو على الأقل تثبيت منطق واضح للتنقّل بين العامية والفصحى، بما يخدم الإيهام السردي ولا يقطع انسيابه. مع ذلك، يبقى الأسلوب السردي مكثّفاً في المشاهد المؤلمة كزيارة القبر أو لحظة تلقّي خبر الاستشهاد فيما يتباطأ الإيقاع في المقاطع التأملية، خصوصاً عند وصف البحر وعلاقة آدم بهبة، حيث تستعيد اللغة ملمسها الشعري وتتحوّل إلى مساحة تنفّس داخل عالم خانق.
الثيمات والرسائل: الحرب كقدر وجودي- ليست حدثاً سياسياً بل عالماً يفرض شكله على النفوس، يعيد تشكيل الزمن والمعنى.الفقد وتحوّلات الذات- كيف يصنع الألم وعياً جديداً، كما في تجربة نضال داخل السجن الذي يتحول إلى مساحة تعليم وصبر داخلي مقاوم . الحب تحت القصف: -قصة آدم وهبة تكشف رغبة الإنسان في القبض على لحظة حياة مهما كانت هشّة. الأمومة كطاقة مقاومة- الأم التي تقف على تخوم الانهيار لكنها تُبقي البيت قائماً بالحب والدعاء.
في النهاية، تكشف رواية "سلالة من طين" عن نفسها بوصفها عملاً يستمدّ شرعيته الجمالية من قدرته على ملامسة جوهر التجربة الإنسانية في غزة، لا من استدعاء المأساة وحدها. فهي رواية لا تبحث عن بطولات معلّبة، بل عن قلوب تصمد وسط الركام، وأصوات تحاول انتزاع مساحتها في عالم يضيق كل يوم. وعلى الرغم من بعض الهفوات الأسلوبية الطفيفة، فإن النص يظل متماسكاً في رؤيته، واضحاً في لغته، شديد الحساسية في تصويره لحياة تتأرجح بين البحر والبارود، وبين الحب والموت. إن ما يميز هذا العمل أنه يقدّم فلسطين من الداخل لا عبر الشعارات بل من خلال سرد هشّ، حقيقي، نابض، يُشعر القارئ بأن الطين الذي صيغت منه هذه السلالة ليس مادة للانكسار بل وعاء للذاكرة والكرامة والبقاء. وهكذا تظل الرواية إضافة مهمة للأدب الفلسطيني المعاصر، ومرآة صادقة لحياة لا تزال تبحث بعناد جميل عن الأمل والنور في ليل طويل.


