حديث في مقهى الوعي

 



 كتبتها أ. رند ابو حسن

كانت شمس الغروب تنسج خيوطها الذهبية على زجاج مقهى صغير في وسط المدينة، حيث جلس رجل في منتصف الأربعينيات في زاوية هادئة، يحمل كتاباً مهترئ الغلاف ويحدّق فيه بعينين يملؤهما التأمل. كان اسمه سليم، رجل بسيط لم يكمل تعليمه الجامعي، لكنه اشتهر بين الناس بحكمته وعمق نظرته للحياة.

اقترب منه نديم، طبيب شاب في أواخر العشرينات، يرتدي بدلة أنيقة وبطاقة تعريف تلمع على صدره. كان قد سمع سليم يتحدث مع الجرسون عن الصبر ومعناه، فدفعه الفضول للجلوس معه.

قال نديم مبتسماً بثقة:

– هل أنت دارس فلسفة أو علم نفس؟

ابتسم سليم بهدوء:

– لا يا بني... أنا فقط دارس للحياة.

ضحك نديم ساخرًا:

– التجارب وحدها لا تكفي. الفهم يحتاج علماً وشهادات.

تنهد سليم وقال بلطف:

– وهل رأيت صاحب شهادة يعامل الناس بقسوة؟ أو متعلماً يجهل أبسط القيم؟ الوعي شيء، والشهادة شيء آخر.

سكت نديم، ثم قال بتحفظ:

– صحيح… لكن لا يمكن التعميم.

أجاب سليم:

– الوعي يا بني لا يعتمد دائماً على الجامعات؛ فالحياة نفسها مدرسة. ما أعجزت الكتب عن تعليمه، علّمته التجارب.

ثم أضاف بصوت عميق:

– يؤلمني أن البعض صار يناقش الدين وكأنه رأي شخصي.

تجمّد نديم. تذكّر حديثاً قاله قبل أيام حين أخبر زملاءه أن بعض أحكام الدين لا تناسب العصر. شعر أن كلمات سليم أصابت موضعاً داخله كان يحاول تجاهله.

لاحظ سليم شروده، فقال بصوت هادئ يحمل عمقاً واضحاً: 

– هل تؤمن أن القرآن كلام الله؟

– أجاب نديم فوراً، بالتأكيد. 

ابتسم سليم، ونظر في عينيه:

 – إذن، ماذا تقول عن من يحاول اختيار ما يعجبه من الدين وترك ما لا يعجبه؟ أليس هذا مناقضاً للإيمان؟ 

ارتبك نديم، ولم يعرف كيف يرد. لم يعتد أن يسأله أحد عن أمور كان يظن أنه تجاوزها لأنه يرى

 نفسه مثقفاً ومواكباً للعصر. 

تابع سليم:

– العلم لا يعارض الدين، لكن الناس حين يتكبرون يظنون أن اللقب العلمي يمنحهم حق تغيير الحقائق، أو إعادة صياغتها كما يشاؤون.

سادت لحظة صمت طويلة، فقطعها سليم قائلاً:

– ليس العيب أن تتعلم، بل العيب أن تجعل شهادتك صنماً تعبده. الوعي أن تحترم البسيط قبل المسؤول، وأن تسمع قبل أن تحكم.

هزّ نديم رأسه وقال:

– العالم لا يسمع إلا لصاحب اللقب.

ابتسم سليم:

– صحيح… لكن الوعي هو أن تملك الشجاعة لئلا تنجرّ مع التيار.

ثم حرك فنجانه قائلاً:

– أمي كانت أمية، لكنها علمتني بالحب والخوف من الله ما لم تعلّمني الكتب. هل تحتاج هذه القيم إلى شهادة؟

تأثر نديم، وتذكر نصائح والدته التي أهملها مع صخب الحياة.

نهض سليم وقال:

– الوعي ليس أن تعرف أكثر، بل أن تفهم نفسك أولاً. فمن عرف نفسه عرف ربه.

صافحه ورحل، تاركاً نديم غارقاً في التفكير.

مرّت الأيام، وبدأ نديم يرى العالم بعيون مختلفة. وفي أحد الأيام دخلت عيادته امرأة فقيرة مع طفلها المريض. كان في الماضي سيطلب موعداً آخر، لكنه هذه المرة ابتسم وقال:

– لا تقلقي… سأفحصه الآن.

خرج الطفل سعيداً، والأم تدعو له بامتنان. عندها شعر نديم أن قلبه صار أوسع.

في المساء عاد إلى المقهى، فلم يجد سليم، لكن الجرسون قال له:

– صاحبك ترك لك فنجان قهوة. قال: هذا فنجان وعي… سيحتاجه يوماً.

ابتسم نديم، وأخرج بطاقته، وكتب تحت اسمه:

"طبيب… ما زال يتعلم كيف يكون إنساناً."

ومنذ ذلك اليوم صار المقهى يُعرف بـ"مقهى الوعي"، حيث يجلس الناس بلا ألقاب ولا مقامات، ويسألون أنفسهم قبل كل كلمة:

هل أتكلم بعقلي… أم بضميري؟

وبقيت كلمات سليم تتردد في المكان:

الوعي ليس أن تعرف الكثير… بل أن تفهم القليل جيداً، وتطبّقه بصدق.


 



إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology