بقلم محمد السباعي
ولِتكن البداية…
كثيرًا ما حاولتُ أن أفتّش في فجواتي المُعتمة، لا لأصطاد معناها، بل لأتحسّس ندوبًا لم يكتمل نزيفها. كنتُ أمدّ أصابعي في دجى الذاكرة كمن يختبر حرارة جمرٍ قديم، فلا يجد سوى رمادٍ يُصرّ على الاشتعال إذا مرَّ به النسيم. كنتُ أبحث عني، كلّي، أو جزءًا يسعُ وقتي، فلا أجد إلّا نصف ظلّ يتعثّر بي كلما حاولتُ النهوض.
ولِتكن البداية…
كنتُ أخرج محمّلاً بتثاقل الروح، كأن الرغبةُ تركتني خلفها في الممرّ دون أن تلتفت. أحملُ فوق كتفيّ ما لا يُحمل: عتمةٌ ليست مظلمة تمامًا، ونورٌ لا يكفي لشيء. أرتطم بتراكمات الشكّ، وأرتجف تحت ريحٍ لا تُسعفني بالبرودة ولا تُمنحني حرارة الهروب. فأغلقُ على بصري شرفةً من دمعٍ قديم، وأنتظرُ أن تهدأ الزوبعةُ التي تلد دائمًا أختها.
ولِتكن البداية…
أمضي إلى التجربة بلا بوصلة. أدخل الماء كما يدخل غريبٌ بيتًا لا يعرف صاحبه. أتذوّق الملحَ في الهواء قبل أن تلامس قدماي البحرَ، وأشعر بعينيه يرقبان قلقي. أتمدّدُ تحت الموجةِ الأولى، فترفعني كما لو كنتُ خطأً ارتكبته الريح. أقاوم بضعفٍ لا يليق بقلبي، وأتشبّث بي كي لا أذوب في اتساعٍ لستُ مستعدًا لصدقه. وحين تشتدّ بي الموجة، تهديني للساحل كما تُهدى ثمرةٌ بلا موسمٍ إلى يدٍ لا رغبة لها في القطاف.
ولِتكن البداية مرّة أخرى…
أتوقّف عن الكتابة كي أسمع ضجّةَ داخلي. أقرأ ما لم يُكتب بعد، وأخشى ما سيجيء منّي. أعرف أن الشعر ليس وعدًا، وليس تعريفًا ثابتًا، وأن الذين يتقنون تسمية الأشياء يُخطئون غالبًا حين يحاولون قياس ما لا يُقاس. أعرف أن القصيدة لا تسكن الورق، بل تسكنني، وتفرّ كلما حاولتُ القبض عليها.
ولِتكن البداية…
يغسلني الحزن ببطءٍ، كأنّه يتدرّب على تطهيري. يتركني عند حافة نهرٍ ليس فيه ماء، فقط صدى موجٍ لم يولد بعد. أتأمّلُ ما مضى مني، وما سيجيء، فأدرك أن الفكرة لا تحتاج إلى يقين، وأنّ التجاوزَ حلمٌ يركض بأقدامٍ من ريح، لا يعرف أين ينتهي.
إذن... لماذا لا تكون البداية؟
القلبُ، هذا الذي يُخفي دهشته في أعمق أوردته، يتّسع كلما ضاق العالم. ينهض من فشله، لا لأنّه قوي، بل لأنّه يعرف طريقة السقوط جيّدًا. يدفعني إلى حيث أجهل، يزيل عني غبار المكوث، ويقودني كجسدٍ مبلّلٍ بالنار نحو الموجة التي لا تُمسك بيد، ولا تُعيد أحدًا كما كان.
ولِتكن البداية…
فالبدءُ وهمٌ، نعم، لكنه الوهم الذي يواصل رفع العالم قليلًا… كي نستطيع المشي تحته دون أن نسحقه.
