بقلم سماء يوسف زعانين
وقفت الصغيرة بفستانها الأصفر المُزهر، كأنها شُعلة من شمسٍ تسافر خارج مدارها، وتسقط برفق على الرصيف. كان شعرها الكستنائي ينساب على ظهرها كظلٍّ هادئٍ خرج من تأمّلٍ طويل، ليرافق خطواتها الصغيرة مثل صمتٍ يعرف ما لا تعرفه الكلمات.
تقدّمت نحو سورٍ من أزهار الجهنمية الوردية الساطعة،
ليفتح لها الورديّ بابًا سرّيًا نحو عالمٍ لم يُكتَب بعد،
عالمٍ من الرحيق والأسرار،
ويذكّرها الأصفر البهيج بأن البراءة أيضًا لون، وأن الانطلاق له ضوءٌ خاص لا تراه إلا القلوب الصغيرة.
وعلى الأرض، تناثرت بتلات الجهنمية كشرائط حريرٍ تُمهّد لها الطريق، تستريح فوق قرميد الرصيف وتحادثها بهمس يعلّم معنًى جديدًا للحياة.. معنى يبدأ من زهرة.
عيناها منشغلتين بكل تفصيلة:
وردة تتفتح، شعاع شمسٍ يتسلّل من بين الأغصان،
ظلّ شجرةٍ يتنفس.
وفي تلك اللحظة، بدا العالم الخارجي—بضجيجه المحتمل وهدوئه الحاضر—مجرد خلفية بعيدة لمشهد يرسمه الجمال وحده.
لم تلتفت إلى الوراء،
فالطفولة لا تعرف حنين الماضي،
بل حنين الاكتشاف.
تمشي نحو الضوء كما لو أنها تُجَرّ إليه بوازعٍ خفي،
وكأن روحها تدرك قبل عقلها
أن الأشياء الأكثر سحرًا لا تُستحق إلا بخطوة واحدة..
خطوة تُشبه الشجاعة أكثر مما تُشبه المشي.
تمدّ يدها الصغيرة نحو بتلة جهنمية متدلية،
وفي تلك اللحظة
تشعر بأن شيئًا يتفتح داخلها؛
عطر خفيف،
كأنه أول وعد يستيقظ في روح طفل لم يتعلم لغة الحياة بعد.
تمرّ النسمة بين خصلات شعرها،
تحركها كما تحرك الريح فكرةً لم تولد فتدفعها نحو الانطلاق، وتصير الخصل موجات صغيرة تبحث عن شاطئها، كما تبحث الأفكار عن مرفئها.
وحين رفعت رأسها قليلًا، بدا العالم كلّه واقفًا يشاهدها:
أشجار الشارع،
والرصيف الهادئ،
والسيارة البيضاء المتوقفة بجوارها..
كلّهم شهود على ولادة حسّ جديد بداخل طفلة تتعلم ببطء أن الجمال ليس منظرًا،
بل طريقًا يفتح نفسه لمن يملك قلبًا يمشي إليه.
ثم مضت الصغيرة،
والفستان الأصفر يتماوج خلفها كرايةٍ من نور،
يشبه بدايةً لم تكتمل بعد،
وكأنها تقول للعالم بصوت لا يُسمع:
"أنا هنا.. وأولُ فصول حكايتي بدأ من زهرة."
