ا
الشاعر محمد فتحى السباعى
الشعر ليس مجرد كلمات تُنسج على الورق، بل هو نبوءة الحلم وأصحاب الأمل. هو رحلة صوفية مستمرة نحو المعنى، وسفر داخلي يعبّر عن تجربة الإنسان مع العالم كما يراه، يحسه، يحلمه، ويعيه. والشاعر ليس مجرد راوي، بل مسافر يحمل زاده الحرف، ويختبر وجوده بين الأبعاد المختلفة للحياة. في هذا السياق، يصبح الشعر مرآة الروح التي تكتشف ذاتها وتختبر العالم، قبل أن يصل إلى القارئ أو المتلقي.
الكتابة على الجدران، منذ أول الخربشات في الكهوف، إلى لوحات الطين السومرية، والمسلات، وجدران المعابد، وحتى المدن الحديثة، لم تكن مجرد تعبير عن وجود بشري، بل كانت تمردًا على الصمت، سؤالًا عن الوجود، واستدعاءً للكينونة. الكتابة إذن هي فعل مقاوم، ووعي متجدد، وإعلان مستمر بأن الإنسان حاضر، وأن صوته لا يمكن تجاهله.
الشاعر العربي الحقيقي يعرف حدود لغته ويعبر عنها بحرية، يتهمها أحيانًا بالعجز عن بلوغ ذروة القصيدة، ويتهم الترجمة بالبخل والخيانة، لكنه في الوقت نفسه يخلق لغة جديدة، لغة الحلم، والأمل، والفكر الحر. ومن هنا يتجلى دور الشعر في تحرير العقل العربي من قيود التقليد والتكرار، ومن قيود السلطة السياسية والاجتماعية، ومن أسر الانكسار النفسي والثقافي.
الوطن عند الشاعر ليس مكانًا جغرافيًا محدودًا، بل فضاء شاملًا يسكنه الفكر والإبداع والضمير الإنساني. الشاعر يعيش وطنه كما يعيش الكون كله، ويرى المستقبل من منظور حاضر واعٍ، ويكتب للحياة قبل أن يكتب للأزمنة القادمة. إذا كانت الكتابة هي وطن المفقود، فهي في الوقت نفسه بوابة الانبعاث والإبداع والتحرر من قيود الاستلاب.
النقد الأدبي، في أحسن حالاته، لا يختزل الشعر إلى معيار محدد، ولا يحاكمه وفق قوانين جامدة. الشعر يتجاوز كل ذلك، فهو ضوء ذاتي، يتوهج، يصنع المعنى، ويعيد تشكيل الواقع. النقد الذي يقتصر على التفكيك والتفسير يصبح مجرد مرآة لنقد ذاته، وليس أداة لتفسير الشعر أو الإبداع. هنا يظهر الفرق بين الشعر كحركة حياة، والنقد كأداة تحليل، والوعي الثقافي كفضاء للتفاعل الاجتماعي والسياسي.
الإرادة العربية لمساءلة الثقافة ليست مجرد شعار، بل فعل مستمر يحتاج إلى شجاعة المبدع والمثقف، ورغبة المجتمع في التعلم والتغيير والتحرر من التبعية والتقليد. الثقافة العربية بحاجة إلى من يصنع منها قوة حية، ووعيًا جماعيًا، وجسرًا بين الماضي والحاضر والمستقبل. التنمية الثقافية هي إرادة متجذرة، تبدأ من الفرد المبدع، ثم تتوسع إلى المجتمع، لتصبح عصب الوعي العام، ووقود التجدد الحضاري.
الشعر العربي، في جوهره، جدار الإنسان الأخير ضد استلابه. كل شيء يمكن أن يُنهب أو يُسلب، لكن الشعر والإبداع يظلان مساحة حرية ووعي لا تموت. الشعر الحقيقي هو ناي، لا منشار أو عصا. هو أداة جمال، لا أداة عقوبة. هو بحث دائم عن المعنى والجمال في الأشياء، رؤيته بعين ثالثة، ليقرأه العادي ويكتشف في ذاته ما لم يكن يعرفه.
الحروف ليست حصونًا تحمي الروح، بل هي نافذة تكشفها، نور ينير الظلام، جسر يصل بين العقل والقلب والجسد. التحصين الحقيقي للإنسان العربي ليس منعًا، بل كشفًا، ليس دفاعًا، بل إصغاءً للحياة نفسها، لوجوده، ولإمكانياته في النهوض والابتكار والانبعاث.
إن الشعر والكتابة والثقافة هم أدوات التحرر العقلي العربي. هم الطريق لاستعادة الذات، وبناء مجتمع واعٍ، وفتح فضاء للحلم والتجربة والمستقبل. هم الحصن الذي لا يُنهب، والنافذة التي تطل على ضوء الحقيقة، والنبوءة التي تحقّق وعد الإنسان بالحياة والكرامة والإبداع.
