الكاتبة التونسيّة أسماء المصفار :رحلة في العالم النّقدي والرُّؤى النّقدية

 


النّاقدة التّونسيّة الباحثة أسماء المصفار تجربتها النّقدية التي جمعت فيها بين السيميائيّة والتّأويل.

يعمَدُ هذا الحوار المنشور في موقع مجلّة سُرى الثّقافيّة إلى اكتشاف المسار النّقديّ للكاتبة التّونسيّة أسماء المصفار التي كتبت عن أعمال أدبيّة مُختلفة جمعت بين ما هو شعريّ وما هو نثريّ مُعتمدة في ذلك مُقاربات مُختلفة في تحليلها لتلك الأعمال. كما أنّها جمعَت في كتاباتها ومنشوراتها بين ما هو ثقافيّ وما هو أكاديميّ، ذلك ما جعلَها تبرز في ساحة النّقد الأدبيّ باعتبارها أكاديميّة باحثة في سلك السيميائيّات وناشطة في المجال الثّقافيّ الإبداعيّ بمُساهماتها في المُنتديات والمجلّات والمنصّات الثّقافيّة المُتخصّصة. 

1- المسار الدّراسيّ والعلميّ :

- هل يُمكن أن تُحدّثينا عن مسارك الدّراسيّ، خاصّة الجامعيّ، المحطّات الدّراسيّة والعلميّة التي تركت أثرا في التّكوين، وفي التّوجّه النّقدي؟

التحقتُ بعد حُصُولي على شهادة البكالوريا آداب، بقسم العربيّة بكُليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس حيث تحصّلتُ على الإجازة الأساسيّة في الحضارة والآداب واللُّغة العربيّةـ ومن ثمّة قرّرتُ مُواصلة المسار الجامعيّ بعد مرحلة الإجازة (ثلاث سنوات) بالتّسجيل في ماجستير البحث في الحضارة والآداب واللّغة العربيّة اختصاص أدب حديث. لتكُونَ السّنة الأولى من الماجستير هي مرحلة التّكوين والتّدريب على مناهج البحث العلميّ وآليّاته، أمّا السّنة الثّانية فهي المرحلة التي اقترنت بإعداد أطروحة نيل شهادة الماجستير. وقد اشتغلتُ في إعداد الأطروحة على موضوع هو:" سيميائيّة الأهواء في عصفور من الشّرق لتوفيق الحكيم" بإشراف الأستاذ الدكتور مُحيي الدّين حمدي، ومن خلال الآراء والتّدخّلات الإيجابيّة التي تفضّلت بها اللّجنة العلميّة التي ناقشت العمل، تحفَّزتُ على استكمال مرحلة الدكتوراه والخوض في مسار البحث العلميّ أكثر من ذي قبل وذلك باتّباع المنهج النّقدي ذاته الذي اتّبعتُه في مرحلة الماجستير وهو المنهج السيميائيّ.

2- أهمّ القراءات المُؤثّرة في التّكوين :

- فيمَ تمثّلت الكتب الأساسيّة المؤثّرة في تشكُّل رؤيتك النّقدية؟

اكتشفتُ مُيولاتي النّقديّة في مرحلة الماجستير والتي اتّضحت أكثر بعد اطّلاعي على كتاب السيميائي اللّيتوانيّ "ألجيرداس غريماس" الذي أصدره رفقة السيميائي الفرنسيّ "جاك فونتاني" والموسوم ب:"سيميائيّات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النّفس". حينها تأسَّسَت لديّ رؤية نقدية جمعت بين ما هو سيميائي وما هو تأويليّ. في كونها مبنيّة التّحليل العميق للنّصُوص بفكّ شفراته وتتبُّع دلالات العلامات اللُّغوية فيها (النُّصوص) وبذلك أدركتُ أنّ هذا التّوجُّه يقتضي منّي التّعرُّف إلى المنهج السيميائيّ باعتباره يغوصُ في عُمق النّص وذلك بتحليل علاماته واستكناه دلالات تلك العلامات ممّا يجعلُ القارئ يفهم النّصَّ بشكل أعمَق وأصحّ.

ولتكُون الكُتُب التي ساعدتني في تشكُّل رؤية نقديّة خاصّة بي هي كالتّالي:

وعلاوة على الكتاب الذي ذكرتُه سابقا، سأذكُرُ من الكُتُب الأساسيّة التي ساهمت في تشكُّل رُؤاي النّقدية: " السيميائيّة السردية" للسيميائي ألجيرداس غريماس. و"السيميائيّة والأدب" لجاك فونتاني، و"التّوتُّريّة والدّلالة" لجاك فونتاني وكلود زيلبرغ و"الدّلالات البنيوية" لغريماس. 

3- الرُّؤية النّقدية :

-  رُؤيتك النّقدية التي تجمع بين الأدب والمنهج السيميائيّ ما تعريف النقد عموما وممارستك للنّقد خصوصا؟ الخصوصيّات التي تُميّز اشتغالاتك النّقدية؟"

إنّ تعريفي للنّقد عُموما، ينبني وفق منطق الحياد والموضوعيّة. أي أنّ النّاقدَ في نظري لا يجبُ أن ينحازَ إلى موقف أو جهة مُعيَّنة دون أخرى في عمله النّقدي، بل يجبُ أن يقومَ بتحليل النّص الذي يشتغل به وفق آليّات علميّة تفرضُها منهجيّة المُقارَبة أو المنهج الذي اتّبعهُ لاستنطاق نصّه المدروس.

إنّ مُمارَستي للنّقد تقتضي منّي الغوص في الأفكار والمسائل التي يطرحُها العمل الأدبيّ الذي أكُونُ قد قرّرتُ الاشتغال به وفق المنهج السيميائيّ، وبهذه الطّريقة أراني أصبحتُ شخصيّة فاعلة أيضا في العالم النّصّيّ المدروس، وهُنا تكمن قُوّة النّاقد التي تجعلُ منه مُتلذّذا لمادّته التّحليليّة بتشريك نفسه في ما يتناوله بالتّحليل والدَّرس. بهذا الشَّكل تكون طريقتي في التّعامُل مع اشتغالاتي النّقديّة التي أجدُني أتحوَّلُ فيها إلى شخصيّة فاعلة داخل العمل الأدبيّ الذي أشتغلُ به علاوة على الشّخصيّة النّاقدة للعمل من خارجه، وهُنا تظهر الوظيفة المُضاعَفة للنّاقد المُحبّ لما يختاره. 

4- المُنجَز النّقدي :

   -  اذكُري لنا مُؤلّفاتك، مُحتواها وأثَرها في السّاحة الأدبيّة، تحدّثي عن مُحتويات كتبك واحدا واحدا. 

تتمثّلُ مُؤلّفاتي في بعض الكُتُب النّقدية التي تتناول أعمالا أدبيّة منها الشّعريّ ومنها النّثري، كما أنّ لديّ كتابا يهتمُّ بما هُو لُغويّ بلاغيّ سأتحدّثُ عن هذه المُؤلّفات بالتّرتيب وسأذكُرُ مُحتواها وخصائصها ومُساهماتها.

الكتاب الأوّل:" مقالات في النّقد المُعاصر: من التّأويل إلى سيمياء الأهواء"، صدَر عن منشورات كناية، السّويد. 



وهُو كتاب في النّقد الأدبيّ، يتضمّن مجموعة من المقالات منها ما هو مُركَّز على البُعد النّظريّ مثل مقال "السيمياء والأهواء" الذي عملتُ فيه على إبراز مُختلف المفاهيم المُتعلّقة بالمُصطلَحَين بين الباحثين العرب القُدماء منهم والمُحدَثين والباحثين الغربيّين القُدماء والمُحدَثين أيضا. ومنها (المقالات) ما هو مُركَّز على المُراوحة بين التّنظير والتّطبيق مثل المقالات الأخرى التي ضمّنتُها في الكتاب والتي تناولتُ فيها بعض الأعمال الأدبيّة النّثريّة منها والشّعريّة مثل:" لعبة النسيان لمحمد برادة ونظريّة تعدّد الأصوات لدى ميخائيل باختين" و "رمزية العلامة في ديوان ملاك موت بلا وطن للشّاعر اليَمَنيّ حميد عُقَبي" و"أناركي وقلَق التّجنيس في رواية أناركي لعبد الرّزّاق بن علي" و"آليّات التّناصّ في ديوان سفينة الحيارى للشّاعر العراقي حكمت الحاج" و"جبران خليل جبران والرّمزية" و"سيميائيّة الأهواء في عصفور من الشّرق لتوفيق الحكيم".

الكتاب الثّاني: "من النّظم إلى المعنى، في مُقوّمات إعجازيّة الاستعارة عند عبد القاهر الجرجاني"، 



صدَر عن منشورات كناية، السويد. يُبرز هذا الكتاب خصائص الاستعارة الإعجازيّة، أي المُقوّمات التي تجعل من الاستعارة إعجازيّة وذلك من خلال تناوُل كتابَي "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني. وقد عمدتُ لاستقصاء ذلك إلى إبراز ما احتواه الكتابان من مسائل مطروحة من قبَل الجرجاني، وبعد ذلك بيّنتُ مفهوم الاستعارة لُغة واصطلاحا (كما هي عند الجرجاني وعند بعض البلاغيّين القُدامي منهُم والمُحدَثين)، ليكُون الكتاب مُتضمّنا لمهاد اصطلاحيّ ضبطتُ فيه بعض مفاهيم المُصطلحات المُكوّنة للموضوع مثل: الاستعارة والإعجاز والنّظم. وثلاثة فصول، يُبرزُ الفصل الأوّل من الكتاب مُقوّمات إعجازيّة الاستعارة ومفهومها عند الجرجاني وشُروط بنائها، وليكُون الفصل الثّاني مُركّزا على ضبط علاقة الاستعارة الإعجازيّة والكلام المنظوم. أمّا الفصل الثّالث من الكتاب فقد اهتمّ برصد علاقة الاستعارة الإعجازيّة بالفصاحة.

الكتاب الثّالث: "سُلطة الأهواء، زول اللّه في رواية أُخت الصّفا" لنزار شقرون صدَر عن دار فضاءات للنّشر والتّوزيع، الأردن.





 اهتممتُ في هذا الكتاب بضبط دور الأهواء في بناء العالم الحكائيّ في رواية "زول اللّه في رواية أُخت الصّفا" لنزار شقرون، وقد حرصتُ على إبراز أنواع الأهواء التي تعلّقت بالشّخصيّة الروائيّة "ثناء" التي تُعدُّ البطلة في الرواية. لذلك فإنّني في هذا الكتاب قد عمدتُ إلى إبراز أهميّة الجانب الأهوائيّ الانفعاليّ وما يقوم به من أدوار مُهمّة في تغيير الأحداث وتطوُّرها في الرواية، ذلك ما خوَّل لي اعتبار ما هُو أهوائيّ انفعاليّ يحُلُّ محلَّ الشّخصيّة الفاعلة التي تُشارك في الأحداث وتبنيها وتُطوّرُها. وقد ضجَّت الرواية التي تناولتُها بالدّرس في هذا الكتاب بالأهواء الماثلة فيها والتي انبنت على التّعدُّد والتّناقُض مثل هوى الحنين وهوى النّفور، وهوى الرّغبة في التّذكُّر وهوى الرّغبة في النسيان، وهوى الحُبّ وهوى الكُره، وهوى النّوم وهوى السَّهَر، وهوى الأمَل وهوى اليأس، ذلك ما حفّزني على تناوُلها بالدّرس والتّحليل وفق موضوع "سُلطة الأهواء" تحديدا.

الكتاب الرّابع: "في البحث عن طوق نجاة" كتاب جماعيّ، صدَر عن منشورات كناية، بالاشتراك مع "جروب مجانين قصيدة النّثر". وهو كتاب تناول فيه مجموعة من الأساتذة والنّقّاد العرب أعمال الشّاعر العراقيّ حكمت الحاج ليكونَ مُحتوى الكتاب مُركّزا أساسا على التّجربة الشّعريّة لديه بمُختلف أبعادها.



وقد شاركتُ في هذا الكتاب الجماعيّ بمقال موسوم ب:" آليّات التّناصّ في ديوان سفينة الحيارى لحكمت الحاج" لأنّني وجدتُه فيه (الدّيوان) مواضع عديدة يضجُّ فيها التّناصّ باعتباره أسلوبا فنّيّا للكتابة اعتمده الشّاعر على مُستويات مُختلفة، فقُمتُ بضبط مواضع التّناصّ وإبراز سماته ودلالاته وروافده. وقد ركّزتُ في تتبُّع دلالات التّناصّ في الديوان الشّعري على: التّناصّ مع الشّخصيّات التّاريخيّة والأدبيّة والفنّيّة، والتّناصّ مع أسماء الأنبياء والرُّسُل وسيَرهم، والتّناصّ مع المُدوّنة الشّعرية، والتّناصّ مع الأحداث التّاريخيّة، والتّناصّ مع النّصوص القُرآنيّة.

الكتاب الخامس: "سيميائيّة الأهواء في عصفور من الشَّرق لتوفيق الحكيم"، يصدر عن دار النابغة المصرية.



 تناولتُ في هذا الكتاب الذي هو في الأصل رسالة لنيل شهادة الماجستير اختصاص أدب، بإشراف الأستاذ الدكتور "مُحيي الدّين حمدي"، ثلاثة أنواع من الأهواء التي خضعت لها الشّخصيّة الروائيّة البطلة في الرواية المدروسة وهي شخصيّة مُحسن، وقد تركّزت فئات الأهواء التي تناولتُها في الدّراسة، على ثلاثة هي:" هوى العشق وهوى الدّين وهوى السّياسة". وقد تضمّن الكتاب قسما نظريّا أبرزتُ فيه بعض المفاهيم لُغة ومفهوما للمُصطلحَين المُكوّنَين للموضوع مثل السيميائيّة والأهواء وذلك بتتبُّع مفهومَيهما عند العرب وعند الغرب. كما تضمّن الكتاب في ما بعد قسما تطبيقيّا يحتوي على ثلاثة فصول اهتمَّ كلّ فصل فيه بهَوى مُعيَّن، ليكُونَ الفصل الأوّل منه مُخصَّصا لتتبُّع مواضع هوى العشق من النّص المدروس وخصائصه ودلالاته ونتائجه. أمّا الفصل الثّاني فقد اهتممتُ فيه بهوى الدّين وذلك بتتبُّع علاماته وخصائصه ونتائجه كذلك. وقد خُصَّ الفصل الثّالث لضبط هوى من نوع آخر مُمَثَّل بهوى السّياسة الذي اتّبعتُ خلاله نفس منهاج التّعرّض لهَوى العشق والدّين. فالشّخصيّة الروائيّة المُمَثَّلة بمُحسن قد وقَعت في حُبّ الفتاة الفرنسيّة سُوزي، ومن هذا المُنطلَق قد تشكّل لديه هوى العشق الذي يُوجّهه نحوَها. إلّا أنّ مُحاولاته للظّفر بحُبّها قد باءت بالفشل، ذلك ما جعله يُولي اهتماما كبيرا بالدّين، ليتشكَّلَ لديه هوى من نوع آخر مُمَثَّل بهوى الدّين الذي عمَد خلاله إلى إبراز ميله إلى السّيّدة زينب وتردُّده على المسجد وكلامه عن الدّين لعلّه بذلك يظفرُ ببعض التّعويض ونسيان التّجربة العشقيّة الفاشلة التي عاشها مع الفتاة الفرنسيّة. وقد أدّى به هوى الدّين إلى اضطلاعه بالكلام عن السّياسة وإبراز مواقفه من بعض الأنظمة مثل اللّيبيراليّة والرّأسمالية وحديثه عن حركة العُمّال وأوضاعهم وأوضاع البلاد بإبراز مواقف عديدة تتعلّق بالسّياسة بين الشّرق والغرب، وهو ما أدّى به إلى انغماسه في هوى السّياسة. على هذا النّحو إذن، قد اضطلعتُ في هذا الكتاب بإبراز فاعليّة الجانب الأهوائيّ للشّخصيّة الروائيّة التي رأيناها تتحوّل من حالة إلى أخرى بدافع أهوائيّ نفسيّ، وهو ما أدّى بها إلى اعتماد أنواع مُعيَّنة من الخطابات التي تتضمّن أساليب تعبيريّة قائمة على ما هو حجاجيّ وما هو عاطفيّ وما هو إيديولوجيّ.


أرى أنّك ركّزت في دراساتك على الجانب الأهوائيّ، فلماذا هذا الاهتمام؟

رأيتُ أنّه من المُهمّ جدا أن تحظى مسألة الأهواء بهذا الكمّ الهائل من الاهتمام باعتبارها انفعالات نفسيّة تتعلّق بالإنسان وبالإنسانيّة. إذن لا بدّ من فهمها والتّفريق بين أنواعها والتّعرّف إلى وجهات النّظر القائلة فيها واستجلاء آثارها في نفس الذات (صاحبة الهوى) وفي عالمها الخارجيّ. 

فيمَ تكمن مزايا الدّراسة السيميائيّة في تحليل النّصوص برأيك؟

تقوم السيميائيّة بالنّفاذ إلى عُمق النّصوص السردية في نظري. وذلك بتجاوُز المُستوى السّطحيّ إلى المُستوى العميق فيها (النّصوص) بتحليل العلامات اللُّغوية وغير اللُّغوية ذلك ما جعل المنهج السيميائي في رأيي نموذجا للتّمثيل الذي يُشكّل الأساس لكلّ خطاب، والذي يتتبّعُ المعنى من المُستوى السّطحيّ إلى المُستوى العميق، وهو ما يجعلنا نفهمُ النّص بالشّكل الصّحيح.


إلى أيّ حدّ نجحت سيميائيّات الأهواء في شكلنة العواطف؟

لقد اضطلعت سيميائيّات الأهواء بصياغة عوالم خاصّة بالعواطف والمشاعر والانفعالات وكلّ ما يتعلّق بالنّفس الإنسانيّة برأيي، باعتبارها قد سعت إلى تحليل العواطف وضبطها ودراستها دراسة عميقة، وذلك عبر الغوص في البُنى العميقة في النّصوص السردية، ممّا يسمح باختراق العوالم الداخلية للشّخصيّة الروائية، لذلك فقد تمكّنت سيميائيّات الأهواء من جعل العواطف قابلة للتّبويب والتّنظيم بشكل دقيق. ويعود ذلك إلى إيلائها لجانب كبير من الاهتمام بالعُمق الداخليّ للنّص ودراسة العلامات اللّغوية وغير اللّغوية. وقد سعى المُؤلّفان غريماس وفونتاني إلى إبراز أنّ الهوى هو أساس الدّلالة، كما ركّزا على الحالة النّفسيّة التي يتشكّل من خلالها المعنى. ليتحوّلّ الهوى في هذه الحال من كونه شعورا داخليّا إلى فعل مُتحقّق على وجه الحقيقة. لذلك فإنّ ظهور الأهواء والعواطف الإنسانيّة في فضاء الصّرح السيميائي ّقد أعاد الاهتمام بالحياة الداخليّة للذات الإنسانيّة بعد أن تمّ استبعادها تحت إكراهات الخلفيّة البنيوية، لذلك فقد فرضت مُقاربة هذا البُعد من النّاحية الإجرائيّة تشكيل عدّة مفهوميّة خاصّة. ويعود الفضل في ذلك إلى العالمَين السيميائيَّين "غريماس وجاك فونتاني" اللّذَين قاما بدراسة الأهواء التي شكّلت مُنعطَفا جيّدا في صَرح السيميائيّات دون أن يُحدثَا قطيعة إبستيمولوجيّة مع سيميائيّات الفعل، وإنّما ساهمت أعمالهما خلال اهتمامهما بسيميائيّة الأهواء في سدّ ثغراتها من خلال إعادة الاعتبار للبُعد الانفعاليّ الذي أُلغيَ في الدّراسات السّابقة، حينما تمّ التّركيز على البُعد المعرفيّ والتّداوليّ فحسب، كما أنّني أعتبرُ أنّ سيميائيّات الأهواء قد فتحت مجالا خصبا لمجموعة من الأبحاث التي ستهتمّ بهذا المجال وأبعدت في الوقت نفسه الأهواء عن الدّراسات الصّنافيّة التي كانت سائدة عند الفلاسفة وعُلماء النّفس.


بماذا تُعلّلين اختيارك لنصّ عصفور من الشّرق لتوفيق الحكيم للاشتغال عليه في رسالة الماجستير وفق منهج أوروبيّ حديث؟

لا أُنكرُ أنّني في تلك المرحلة قد عشتُ مرحلة حيرة كبرى تتعلّق بأيّ نصّ أختار للاشتغال على رسالة نيل شهادة الماجستير. وقد زادت حيرتي أكثر نظرا إلى كثرة النّصوص الأدبيّة والروايات والمناهج التي تُقارَبُ من خلالها النّصُوص، لذلك كانت حيرتي مُضاعفة باعتبارها تمازجت بين حيرة اختيار النّص أو الرواية التي سأتناولُها بالدّرس والمنهج الذي سأُطبّقُه على النّص المُختار للدّرس. ولكن بعد التّرويّ والحوارات المُهمّة والمُتتالية التي دارت بيني وبين الأستاذ المُشرف مُحيي الدّين حمدي ذلك الرَّجُل الفذّ والرّصين الذي اقترح عليَّ دراسة نصّ عصفور من الشّرق لتوفيق الحكيم، وتناوُل المنهج السيميائيّ وخاصّة منهج سيميائيّة الأهواء كما هي عند غريماس وفونتاني لتحليل النّصّ، استقرّ رأيي على مُقترَحه. وتمكّنتُ بعد ذلك بتقديم دراسة نوعيّة في اختصاص الأدب وبتطبيق المنهج السيميائي.

ما هو انطباعك عن نصّ عصفور من الشّرق بعد أن تناولته بدراسة مُعمَّقة؟

 رغم أنّ نصّ عصفور من الشّرق هو نصّ قديم، إلّا أنّ أُولى انطباعاتي عنه تتمثّل في أهميّته في ذاته باعتباره خطابا سرديا طَريفا ومُهمّا، وكذلك مكانة مُؤلّفه الفكرية والأدبيّة، فقد رأيتُ أنّه نصّ قابل لأن يُدرَس بطُرُق مُتعدّدة لغنَاه وتنوُّع خطاباته المُكوّنة له من قبيل (السرد والحوار المسرحيّ والشّعر والخطاب الفلسفيّ والسياسيّ والاجتماعيّ...).

كما أنّ النّص الجيّد في نظري، يظلُّ دائما قابلا للدّراسة من زوايا جديدة وهذا النّص القديم رُبّما ظُنّ أنّه دُرسَ درسا كاملا، فقد نُظر إليه باعتباره رواية وظنّ بعضهم أنّه يندرج ضمن جنس السيرة الذّاتيّة إلّا أنّني استقرّ رأيي على دراسته من زاوية أعتقد أنّها جديدة هي زاوية الأهواء فيه والفحص عنها باعتماد نظرية سيميائيّة الأهواء.


9 - المُستقبل والتّوجُّهات الجديدة:

- أغلب النّقّاد الكبار صاروا روائيّين عالميّا وفي العالم العربي، ممّا يجعل النقد خطابا مُهدّدا في وجوده، أو على الأقل قابلا لأن يكون مندرجا في سياقات إبداعيّة أوسع كالرواية مثلا؟ هل ننتظر منك باعتبارك ناقدة أن تُصبحي ساردة؟

في الحقيقة هو أمر طبيعيّ أن يتوجّه النّاقد إلى مسار كتابة الرواية أو القصّة ما دام قادرا على الكتابة.

ونجدُ من النُّقّاد مَن كتبُوا كُتُبا في النّقد وبعد ذلك اختارُوا منحى كتابة الرواية والقصّة أو مازجُوا بين المنحيَين في ذات الوقت أمثال طه حسين ومحمد الباردي ونبيل سُليمان. وفي الحقيقة، نعم يمكن أن أُدخلَ نفسي إلى عالم كتابة الرواية أو القصّة ما دُمتُ أهوى الكتابة، ولكنّني لا أظنّ أنّني سأُقصي نفسي عن الكتابات النّقدية وعن مجال النّقد الأدبيّ.

10- الختام :

- قدّمت صُورة مُميَّزة عن النّقد والنّاقد. ماذا تُضيفين؟

أُضيفُ موقفا أراهُ مُهمّا، كون أنّ النّاقدَ يجبُ أن يكون نقدَهُ بنّاء، أي أن يتعامل فقط مع النّصّ الذي يتناوله بالدّرس وليس مع صاحب النّصّ فيقُوم بمدحه أو ذمّه من جانب أهوائيّ ذاتيّ، لأنّه بذلك سيُعقّد صُورة النّاقد الموضوعيّ الحياديّ، لأنّ وظيفة النّاقد تكمن في تحليل المسائل التي تتناولها النّصوص من الجانب الفنّيّ ومن الجانب المضمونيّ، وليس إصدار أحكام تدين صاحب النّصّ بذمّه وذمّ أفكاره أو إطرائه والإغراق في مُجامَلته لأنّه بذلك لن يكون نقده مبنيّا على الأُسُس المُهمّة التي تجعل من النّقد نقدا ومن النّاقد ناقدا.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology