"العنف الصامت" وسر النجاة

 "


بقلم د. مجدولين منصور 


في زحمة الحياة، قد لا يكون الأذى دائمًا صراخًا أو ضربًا أو كلمات جارحة؛ أحيانًا يتسلل إلينا شكل آخر من العنف لا يُرى ولا يُسمع، لكنه يترك في الروح ندوبًا عميقة. يسميه بعض الحكماء: العنف الصامت.


هو ذاك الغلّ الذي يسكن الصدر، الحسد الذي ينهش القلوب في الخفاء، سوء الظنّ الذي يفتك بالعلاقات، الكراهية المضمرة، الشماتة الخفية، والمكر الذي يُحاك في الظلام. إنها تلك المشاعر السلبية التي لا تحتاج إلى لسان أو يد لتؤذي، بل يكفي أن تترسّخ في الداخل لتشوّه النفس، وتبعدها عن نور السلام.


القرآن الكريم أشار بوضوح إلى أن ما نُخفيه في صدورنا ليس شيئًا عابرًا:


"إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" [البقرة: 284].



هذه الآية العميقة تكشف أن الحساب الإلهي لا يتعلّق بالأفعال الظاهرة فحسب، بل يتجاوزها إلى بواطن النوايا ومكامن القلوب.


القلب السليم.. بوابة الجنة


لهذا كان مفتاح النجاة يوم القيامة شيئًا واحدًا عظيمًا:


> "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" [الشعراء: 88-89].


القلب السليم ليس قلبًا خاليًا من المشاعر، بل قلبًا طاهرًا من الأمراض الخفية: لا يحمل حقدًا، ولا يُضمر شرًا، ولا يعرف طريقًا إلى الغشّ أو الكراهية. إنه قلب مُحبّ، متسامح، نقيّ، يفرح بخير الناس كما يفرح بخيره الشخصي.


المفارقة المدهشة أن أعمالًا كالجبال قد تتحوّل إلى هباء منثور إذا فسدت النوايا، بينما قد يُدخل اللهُ الجنةَ عبدًا لم يكن كثير الصيام ولا القيام، لكنه نظيف السريرة، نقي القلب، لا يحمل ضغينة لأحد.


حتى الدراسات الحديثة في علم النفس تؤكد أن مشاعر الحقد والضغينة ليست مجرد "انفعالات داخلية"، بل لها أثر مباشر على الصحة الجسدية والنفسية. الغِلّ يُنهك المناعة، الحسد يرفع التوتر، والضغائن تُسرّع شيخوخة القلب. وكأن العلم الحديث يُعيدنا إلى الحقيقة القرآنية القديمة: ما في الصدور ليس سرًا، بل حقيقة تُؤثر في الدنيا والآخرة.


كيف نزرع القلب السليم؟


بالمراجعة اليومية للنفس: أن نسأل قلوبنا قبل نومنا: هل نحمل على أحد؟


بالدعاء: "اللهم طهّر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة".


بالتسامح: فالعفو لا يُطهّر الطرف الآخر فحسب، بل يُحرّرنا نحن من سجن الكراهية.


بالمحبة الصادقة: أن نفرح للناس بما نحب لأنفسنا.

إنها رحلة طويلة، لكنها أجمل استثمار للروح. فالقلب السليم ليس مجرد أمنية، بل هو كنز النجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology