بقلم الناقدة منال العبادي
في رواية الغريب للكاتب الفرنسي ألبيركامو والتي تتحدث عن فلسفة هامة ومناقشة موضوعات مثل الاغتراب والعبثية والحرية، حيث تعكس الرواية مشاعر الاغتراب والقلق بطريقة واقعية.
ومن أشهر الاقتباسات فيها "توفيت أمي اليوم، أو ربما بالأمس لا أدري"
و "أنّ المُعيب في المقصلة هو انتفاءُ أيّ حظّ، أيّ حظّ على الإطلاق"
هكذا سار خالد بدوي في رواية "زهرة القطيفة" حيث أن الرواية ليست مجرد عمل روائي عادي، بل هي رحلة استثنائية إلى أعماق النفس البشرية المجروحة، من خلال شخصية "جمال سعيد" - المصمم الجرافيكي المنعزل بسبب مرض جلدي مشوّه - تقدم الرواية دراسة نفسية عميقة تصلح لأن تكون حالة سريرية في أدبيات التحليل النفسي.
✳️ملخص الرواية: رحلة الألم والعزلة
تدور الأحداث حول جمال سعيد، الذي يعيش في عزلة اجتماعية شبه تامة بسبب إصابته بمرض جلدي نادر. يعمل مصمماً عن بُعد، منعزلاً في شقته المتواضعة، حتى تأتي رسالة مفجعة من فتاة غامضة تُلقب بـ"عازفة الكمان" تسأله: "أنت تكتب عن السعادة ببلاغة، فهل أنت سعيد؟".
هذا السؤال البسيط يفتح بوابة الذاكرة المؤلمة، فيسترجع مأساة حياته منذ الطفولة، وفاة والديه المروعة في حادث قطار، معاناته مع المرض، تربيته في كنف جدته العجوز، والتنمر والرفض الاجتماعي الذي لازمه طوال حياته. تتطور العلاقة مع "عازفة الكمان" عبر العالم الافتراضي إلى حب روحي عميق، لكنها تصطدم بواقعه المرير عندما يقرر مواجهتها في العالم الحقيقي.
تناولت الرواية بكل براعة العمق النفسي الاستثنائي حيث تقدم الرواية غوصاً غير مسبوق في أعماق النفس المعذبة، حيث تظهر شخصية جمال بكل تعقيداتها وتناقضاتها.
كما هو واضح يمتلك الكاتب لغة سردية شاعرية فالرواية ذات أسلوب مميز مليئاً بالصور البلاغية العميقة، مثل تشبيه الألم بالملابس الداخلية، والحياة بالإناء الصدئ.
وتطرقت لمعالجة قضايا إنسانية جوهرية فهي تتعامل الرواية مع مواضيع عميقة مثل العزلة، المرض كسجن، الصراع بين الوهم والواقع، وآثار التنمر والرفض الاجتماعي.
كانت بنية روائية متينة فالتناوب بين الماضي والحاضر يخلق تكاملاً في فهم شخصية البطل ودوافعه.
التحليل النفسي الفريدي وتشريح الشخصية المعذبة فمن منظور التحليل النفسي الفرويدي، تمثل الشخصية الرئيسية حالة دراماتيكية للصراع النفسي،الصراع بين مكونات الشخصية:
. الهو: يتمثل في الرغبات المكبوتة للجنس والحب والانتماء، التي يعبر عنها جمال عبر علاقاته الافتراضية.
· الأنا: تحاول التوفيق بين رغبات الهو وقيود الواقع المتمثلة في مرضه الجلدي، لكنها تنهزم في النهاية.
· الأنا الأعلى: يتمثل في القيم الدينية والأخلاقية التي تسبب له صراعاً داخلياً وشعوراً بالذنب.
*عقدة أوديب غير المكتملة:
وفاة والدي جمال في الطفولة المبكرة تمنع اكتمال عقدة أوديب بشكل طبيعي،مما يبقيه عالقاً في مرحلة الطفولة غير قادر على تكوين هوية ناضجة.
مارس البطل آليات الدفاع النفسي
فهو يمارس عدة آليات دفاعية نفسية
فالكاتب مرحبا وظفها بكل براعة وفعل آليات الدفاع النفسي (Defense Mechanisms) بشكل متقن وواعٍ في بناء شخصية "جمال سعيد"، ويمكن تتبع هذه الآليات بوضوح عبر أحداث الرواية
آليات الدفاع النفسي التي استخدمها الكاتب:
. الكبت (Repression)
كبت مشاعر الحزن عن وفاة والديه
وكبت الرغبة الجنسية وتحويلها إلى علاقات افتراضية وكبت الغضب من التنمر والرفض الاجتماعي
. الإسقاط (Projection)
إسقاط عيوبه على الآخرين: "الجميع قاسٍ ومرفض"
ورؤية العالم من خلال مرآة تشوهه الجلدي
واتهام الآخرين بعدم الفهم بينما هو من يرفض الانفتاح
. التكوين العكسي (Reaction Formation)
تحول من ضحية التنمر إلى معتدٍ في العالم الافتراضي والكتابة عن السعادة بينما هو أعمق الناس تعاسة
والادعاء بالزهد في العلاقات بينما هو يتوق لها
. الانزياح (Displacement) تحويل الطاقة الجنسية إلى إبداع فني (التصميم الجرافيكي)
و تحويل الألم النفسي إلى كتابة مقالات فلسفية
وتحويل العجز الاجتماعي إلى سيطرة افتراضية
. الإنكار (Denial)
إنكار حاجته للآخرين: "لا أحتاج أحداً"
و إنكار تأثره بالتنمر: "لا أبالي بما يقولون"
وإنكار رغبته في العلاقة الحقيقية
. التسامي (Sublimation)
تحويل الطاقة النفسية المكبوتة إلى إبداع فني
وتحويل الألم إلى نتاج أدبي (مقالات السعادة)و تحويل العزلة إلى عمل منتج (التصميم عن بُعد)
. الانعزال (Isolation)
العزلة الاجتماعية الطوعيةو الانسحاب من العالم الحقيقي والانكفاء على الذات في الشقة الصغيرة
. التبرير (Rationalization)
تبرير العزلة: "الناس كلهم hypocrites"
وتبرير رفض اللقاءات: "المنفعة تحكم العلاقات"
وتبرير فشل العلاقة: "هي تريد الحب وترفض مشكلاته"
كيفية استخدام الكاتب لهذه الآليات:
✳️ استخدام واعٍ لخدمة البناء الدرامي
حيث جعل الآليات النفسية محور تطور الشخصية
و تحول الآليات من وسائل حماية إلى أقفاص نفسية
كما كشف كيف تصبح الآليات أمراضاً مزمنة
كان ذلك من خلال توظيف فني راقٍ تحويل المصطلحات النفسية إلى صور أدبية مؤثرة
وجعل الآليات النفسية محركاً للأحداث
و ربط الآليات النفسية بالرمزية (المرض الجلدي = التشوه النفسي)
سعي الكاتب لبناء تراجيدي متدرج
بداية: آليات تكيف صحية نسبياً
وتطور: تحولها إلى أنماط مرضية
والذروة: انهيار النظام الدفاعي
احتوت الرواية على مجموعة من الرسائل وهي رسائل نفسية أراد الكاتب إيصالها:
مرونة الآليات مقابل الجمود
الآليات الصحية تتكيف مع الواقع
والآليات المرضية وتجمّد الشخص في الزمن والتداخل بين الواقع والافتراضي
العالم الافتراضي حيث أصبح مخزناً للآليات الدفاعية
كما أن تحول الدفاعات النفسية إلى هويات رقمية
فكانت الصدمة المبكرة وتشوه الشخصية
والصدمة في الطفولة تشكل نظام الدفاع
والدفاعات تصبح سجوناً نفسية
الكاتب استخدم آليات الدفاع النفسي ببراعة فنية ونفسية، حيث حول:
المفاهيم النفسية إلى دراما إنسانية
و النظريات تحليلية إلى وقائع روائية
والآليات لا واعية إلى خيارات وجودية
هذا الاستخدام الواعي جعل من "زهرة القطيفة" رواية نفسية بامتياز، وليست مجرد قصة درامية، بل دراسة عميقة لكيفية تحول آليات الحماية النفسية إلى سجون تقيد الإنسان وتشوه علاقته بالذات والآخرين والعالم.
رواية "زهرة القطيفة" تثبت أن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يجرؤ على كشف الجروح الإنسانية العميقة، من خلال تشريح نفسي دقيق، تقدم الرواية مرآة قاسية لكنها ضرورية لفهم آليات المعاناة النفسية وآثار الصدمات المبكرة على تشكيل الشخصية، ليست مجرد قصة حب فاشلة، بل هي دراسة أنثروبولوجية ونفسية عميقة للإنسان في مواجهة قسوة الواقع ومرارة الرفض.
عزز الكاتب (الأناوية) باستخدام ضمير المتكلم كخيار جمالي واستراتيجي
لم يكن استخدام ضمير المتكلم في رواية "زهرة القطيفة" مجرد خيار أسلوبي عادي، بل كان استراتيجية سردية متعمقة تحمل أبعاداً نفسية وفلسفية وجمالية، تساهم في تشكيل هوية النص وعلاقته بالقارئ.
ومن الأبعاد النفسية لاستخدام ضمير "أنا"
تعميق التجربة الذاتية وتحويل القارئ من مشاهد خارجي إلى شريك في المعاناة
ثم اختراق الحواجز بين الذات الساردة والذات القارئة
وبعدها يخلق حالة من التماهي العاطفي مع بطل الرواية
كما عمل على كشف العالم الداخلي وذلك
بالسماح بتسريب المونولوج الداخلي بشكل طبيعي
ثم الكشف عن التناقضات الخفية في الشخصية
لإظهار الفجوة بين الظاهر والمكبوت
والعمل على تفكيك الذات من خلال استخدام
ضمير المتكلم الذي أصبح أداة لتشريح الذات والكشف عن التصدعات النفسية بشكل مباشر ثم تحويل السرد إلى جلسة تحليل نفسي
وهنا ظهرت الأبعاد الفلسفية والوجودية
كأزمة الهوية فضمير "أنا" يُظهر أزمة الهوية التي يعانيها البطل
ويطرح السؤال عن حقيقة الذات من أنا ؟
ثم البحث عن معنى الوجود من خلال السرد الذاتي
كما عمل على مسرحة صراع الذات والآخر
واستخدام الضمير يعكس الانفصال عن العالم ثم التأكيد على الاغتراب الوجودي
وبعدها تم تحويل العزلة إلى موقف فلسفي
كما كان لجدلية الداخل والخارج دور جلي
فالضمير يصبح جسراً بين العالم الداخلي والواقع الخارجي ثم الكشف عن التناقض بين ما نُظهره وما نخفيه إلى استكشاف حدود الذات في مواجهة العالم
اخذ هذا الأسلوب بعدا جماليا
من خلال بناء الثقة السردية وخلق صدق عاطفي مع القارئ ثم تحويل السرد إلى اعترافات شخصية إلى بناء ميثاق ثقة بين الراوي والمتلقي
كما سمح لتعدد الأصوات الداخلية
فضمير المتكلم سمح بتعدد الأصوات داخل الذات الواحدة
والكشف عن الحوار الداخلي المستمر
وإظهار التفكك النفسي عبر تعدد الضمائر الداخلية
وعمل استخدام ضمير المتكلم على تفجير اللغة من الداخل و تحويل اللغة إلى دماء تنزف وجعل الكلمات تعبر عن الجروح النفسي وتحويل السرد إلى صراخ وجودي
وكانت وظيفة السرد بضمير المتكلم الى
خرق جدار البروكسيستا،كسر الحاجز الرابع بين النص والقارئ وتحويل القارئ إلى شاهد على الجريمة ثم خلق مساحة حميمة للسرد
وعمل على منهجية توجيه التلقي ورسم خارطة طريق للنص من خلال توجيه تعاطف القارئ بشكل مقصود وبناء تحالف عاطفي مع البطل وخلق مسافة نقدية متحكم بها.
وعملت هذه المنهجية على تفجير الزمن السردي والسماح بالارتدادات الزمنية الطبيعية ثم محاكاة تداعي الذكريات كما يحدث في العقل البشري
وكسر التسلسل الزمني بشكل عضوي.
وهذا يجعل القارئ مشاركا في التلقي والمشاركة فيه
وتحويل القراءة من متعة جمالية إلى تجربة وجودية
ثم إجبار القارئ على مواجهة الأسئلة المصرية لخلق مسؤولية أخلاقية تجاه النص
كما وإن كسر مسافة الأمان بين القارئ والنص وتحويل التعاطف إلى تجربة شخصية
وخلق أزمة هوية لدى القارئ نفسه ماهي إلا تحدي المسافات الآمنة بين القارئ والنص.
إن تحويل علاقة القارئ/النص إلى علاقة ذات/ذات
وخلق حوار وجودي يتجاوز حدود النص و تحويل القراءة إلى رحلة وجودية كانت كل هذه الأسباب لإعادة تعريف العلاقة بين القارئ والنص والكاتب.
ومن المخاطر لاستخدام هذا الأسلوب خطر الانحياز العاطفي
فخلق تعاطف مطلق قد يمنع الرؤية النقدية
مع تحويل البطل إلى ضحية دائمة
لإغلاق مساحات التفسير المتعددة.
وإن حصر الرؤية في منظور واحد
قد يمنع رؤية الشخصيات الأخرى بشكل متكامل
وخلق نفق سردي ضيق.
أخيرا إن استخدام ضمير المتكلم في "زهرة القطيفة" لم يكن مجرد خيار أسلوبي، بل كان:
فعل مقاومة وجودي، مقاومة الإقصاء الاجتماعي بالسرد الذاتي وتحويل الصمت إلى صوت مسموع ثم مقاومة التشيؤ بإنسانية السرد.
والتأكيد أن الجمال ليس في الكمال بل في صدق التعبير و تحويل القبح إلى جمال سردي ثم إثبات أن الرواية يمكن أن تكون جراحة نفسية
وكان للكاتب رسالة إنسانية وهي التذكير بأن كل إنسان هو راوية حياته
والتأكيد على قدسية التجربة الذاتية
ثم تحويل الضعف إلى قوة سردية
بهذا يكون ضمير المتكلم في الرواية قد تجاوز كونه أداة سردية ليكون موقفاً وجودياً وبياناً إنسانياً عن حق كل ذات في سرد حكايتها، بكل ما تحمله من ألم وجمال، قوة وضعف، يأس وأمل.
رواية زهرة القطيفة رواية نفسية بالدرجة الأولى تستحق القراءة وتضيف الجديد للمكتبة العربية.