حفّار القبور

 



بقلم بلعربي خالد _هديل الهضاب 

مونودراما

اسمي؟

هاه، سؤال لا طائل منه. من يسأل عن اسم حفّار القبور؟!

أنا مجرد رجل يحفر الحفر ويملأها بالبشر. إنهم يسمونني "العم يحيى"، لأنني – على ما يبدو – الحي الوحيد بين كل من حولي.

منذ عشرين سنة وأنا أعيش بين الجثث أكثر مما أعيش بين الأحياء.

أعرف وجوههم في آخر لحظاتهم أكثر مما يعرفها أبناؤهم.

وكلما حفرتُ قبرًا جديدًا، قلت لنفسي:


"سبحان من جعل التراب أكثر صدقًا من الناس."


قبل أيام، دفنتُ "الحاج منصور"، تاجر الأقمشة والذهب.

لم أكن أعرف أن الموت يمكن أن يكون بهذه الأناقة.

جاء النعش مطرزًا بخيوط فضية، والمشيعون يلبسون بدلات كأنهم في عرض أزياء جنائزي.

حتى الميت نفسه بدا وكأنه ذاهب إلى حفلة لا جنازة!

قال لي أحدهم بفخر:

– دفنه سيكون مميزًا يا عم يحيى، فقد جلبنا له كفناً مستورداً من إيطاليا!

ضحكت حتى سعلت ترابًا، وقلت في سري:


"يا سلام! حتى الموت عندهم صار له موضة!"


حفرت قبره كما يُحفر أي قبر، لكنهم أرادوا شيئًا مختلفًا، "تصميمًا خاصًا"، كما قال ابنه.

سألني إن كنت أستطيع أن أجعل الجدار الداخلي مائلًا قليلاً، ليبدو “أكثر فخامة”!

نظرت إليه وقلت:

– لا تقلق، سيدي، سيبدو القبر فاخرًا جدًا عندما تبدأ الديدان العمل!

ضحك بعضهم بخجل، والبعض الآخر رمقني بنظرة كأنني أفسدت عليهم المناسبة.

أجل، عند الأغنياء حتى الموت يُدار بترتيب وموسيقى خافتة، ووجوهٍ تعرف كيف تبكي دون أن تفسد الماكياج.

بعد أسبوع فقط، جاءني رجل نحيل، بثوبٍ مرقّع، يحمل جثة والده ملفوفة ببطانية.

– اسمه "أبو حسن"، قالها بصوتٍ خافت.

تذكرت الرجل… بائع الفول السوداني الذي كان يوزع الابتسامات مجانًا في الصباحات الفقيرة.

دفنّاه بصمت. لا موسيقى، لا كلمات، لا معزّين.

حتى الريح بدت منعدمة، لا تريد أن تحضر.

جلستُ عند قبره بعد أن انصرف الجميع، وأشعلت سيجارةً كنت أحتفظ بها لوقتٍ كهذا، وقلت لنفسي:


"الناس الآن تهتم بقيمة الكفن أكثر من قيمة الكلمة الطيبة."


تأملت القبور من حولي:

قبرٌ غني عليه وردٌ ذابل،

قبرٌ فقير عليه حجرٌ مائل،

وقبرٌ صغير ما زال جديدًا كحذاءٍ في واجهة متجر.

فكّرت وأنا أتنفس الدخان:

"الحيّ يلبس ليُرى، والميت يُكفّن ليُنسى… والاثنان في النهاية عُراة."

في المساء، مررتُ في الحي، فوجدت الناس يتحدثون عن “موضة الجنازات الحديثة” — كأنهم يتحدثون عن فساتين أو هواتف جديدة.

واحدة تقول : “هل رأيتم كيف كانت جنازة الحاج منصور راقية؟”

وأخرى ترد: “نعم، لكن الأضواء كانت مبالغًا فيها قليلاً.”

وقفتُ في وسط الشارع وقلت بصوتٍ عالٍ:

– يا ناس، الموتا لا تحتاج إلى إضاءة خارجية ولا تصوير داخلي!

لكنهم نظروا إليّ كما لو أنني مجنون، وأنا فعلاً لا أنكر ذلك.

ربما الحفر الطويل جعل رأسي يحوي أكثر من اللازم من الغبار والحقيقة معًا.

عدت إلى غرفتي الصغيرة بجوار المقبرة، كتبت على الجدار بقطعة فحم:


"من أراد أن يتبع الموضة، فليتذكر أن آخر صيحةٍ في الحياة… هي الصمت."


ثم ضحكتُ،

ربما كنت أضحك لأنني الوحيد الذي يعرف النهاية…

ونهاية كل شيء عندي تبدأ بحفر بمعول.



إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology