حين نتعلّم ألّا نُرهق قلوبنا

 



بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة 



في زحمة العلاقات، حيث يتشابك الحضور بالغياب، والدفء بالخوف، نُصاب أحيانًا بوهمٍ جميل: أنَّ شخصًا ما سيظلّ سندًا لا يهتز، وقلبًا لا يتغيّر. نُراهن على الاقتراب كأنه يقين، ونمنح مشاعرنا كأنها مُلك مشترك لا يضيع. لكن الحقيقة — مهما حاولنا الالتفاف حولها — أن الإنسان بطبيعته يعود إلى نفسه أولًا؛ يلوذ بجرحه، ويطمئن لظلّه، قبل أن يفكّر في أي يد أُخرى تمتد إليه.


لا تُكثِر من الرهان على قلوب الناس…

فالقرب شعورٌ مؤقت، مهما بدا ثابتًا. قد يمرّ في حياتك أشخاص يبدون كأنهم النصف المكمّل لروحك، دافئون بما يكفي لتظنّ أنهم لن يتخلّوا عن يدك يومًا. لكن سيأتي الوقت الذي تنكشف فيه طبيعة البشر: كلٌّ يعود إلى مركزه الداخلي، إلى خشيةٍ صغيرة تختبئ خلف ابتسامة، وإلى حاجةٍ قديمة للاتكاء على ذاته قبل أي شيء آخر.



وليس هذا جفاءً ولا نكرانًا…


بل فطرة إنسانية لا ينجو منها أحد. كل شخص يحمل على كتفيه ما يكفيه: مخاوف لم يخبرك بها، أثقالًا لا يقدر أن يشرحها، واحتياجًا خفيًا للطمأنينة قد يجعله يختار نفسه حتى لو ظننتَ يومًا أنّك الأقرب إلى قلبه.



لذلك، لا تصدّق أن هناك مَن سيحبّك أكثر من نفسه.


قد يُهديك اهتمامًا، يشاركك وقتًا، يمنحك كلمات دافئة تظنها وعدًا بالثبات… لكن حين تتعارض حاجته الداخلية مع وجودك، سيقف إلى جانب ذاته دون تردّد. وإن كنتَ حكيمًا، لن تغضب؛ ستبتسم بتفهّم، لأنك تعرف أنك — في لحظة خوفٍ مشابهة — ستفعل الشيء ذاته.



المشكلة ليست في الناس، بل في توقّعاتنا منهم.


نحن نمنح بدافع الأمل، ونُحبّ بدافع الامتلاء، ونعلّق سعادتنا على من نظنّ أنه سيعيد ترتيب فوضانا الداخلية. لكن الحقيقة أن كل فرد يحاول ملء فجواته الخاصة. حين تفهم هذا، ستتعلّم أن تمنح دون أن تُستنزف، وأن تُحب دون أن تفقد ملامحك، وأن تكون حاضرًا دون أن تنتظر ما هو فوق قدرة الآخرين.



ومع هذا الإدراك، تنضج علاقاتك…


لن تُطيل الوقوف عند بابٍ أغلقه أصحابه، ولن تُحمّل قلوب الناس أكثر مما تحتمل. ستفرح بمن يقترب بصدق، وتُقدّر من يبتعد بلا ضجيج، لأنك تعلم أن كل إنسان يختار المساحة التي تضمن سلامه الداخلي، ولأنك — أنت أيضًا — تستحق مساحة تحفظك من الانكسار.



الحب الحقيقي ليس تضحيةً تُنهك، ولا اقترابًا يبتلع أحد الطرفين.


إنه قدرة على أن يظلّ كلٌ منكما قائمًا بذاته، دون أن يجرح الآخر، ودون أن يتحوّل الاحتياج إلى عبء. وحين تضع نفسك في مكانها الصحيح — لا فوق أحد ولا دونه — ستكتشف أن العالم يصبح أبسط، وأن العلاقات تصبح أصفى، وأن قلبك يتّسع فقط لمن يعرف أن الحب مشاركة لا سباق، ومودة لا مطالبة، ورفقة تبقى بقدر ما تحتملها الأرواح.



وعندها فقط، ستعرف أنك لم تعد تبحث عمّن يجعلك الأول في حياته… بل عمّن يجعل وجودك فيها جميلًا، متوازنًا، وإنسانيًا. ستعرف كيف تحب دون أن تُرهق قلبك، وكيف تترك مساحة لروحك كي تتنفس… لأنك أدركت أخيرًا أن أجمل العلاقات هي تلك التي لا تُقصي الذات ولا تنفي الآخر، بل تمنح كليهما حق البقاء بسلام.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology